حصادُ السِّنين…في التجربة السِّجنية للإمام عبد السلام ياسين -14-
مفاوضات أخرى…
بعد أربع سنوات من الحصار، فرض ملف الحصار نفسه على الدولة بقوة، وأصبح المحاصَر محاصِرا لمحاصِره، واستحال الملف حارقا من الناحية السياسية والحقوقية، وتساءل بعض نواب البرلمان عن وضعية الحصار وقانونيته في إطار الأسئلة الشفوية بمجلس النواب، نذكر منها سؤال النائب عبد الرحمن الحريشي عن حزب الاستقلال يوم 12 يناير 1994م، والذي أربك بسؤاله الوزيرَ المنتدب المكلف بحقوق الإنسان قبل أن يتهرب من الجواب لأنه أكبر من مسؤولية وزير في دولة متخلفة الحكومةُ فيها لا تحكُم! والقانون فيها مُلجم بالتعليمات!
اضطرت الدولة إلى التفكير في محاولة حل معضلة الحصار، وذلك عبر تدبير مفاوضات جديدة وغير مباشرة مع الأستاذ، لكن بنفس العقلية الاستعلائية والمنهجية الأحادية في التحاور والتفاوض[1]، إذ أرسلَت أحد المقربين من الملك، وهو الأمين العام للحركة الشعبية الدستورية الديموقراطية السيد عبد الكريم الخطيب رحمه الله (ت2008م) فزار الأستاذ في بيته يوم 26 مارس 1994م، يحمل إليه تعليمات (أوامر) فوقية صماء، ليوافق عليها مقابل إنهاء عقوبة الحصار! غير أنه لم يجد بُغيته عند رجلٍ شهمٍ لا يقبل المساومة ولا الاستجداء.
وتكررت المحاولة ثلاث مرات أخرى عبر الأستاذ عبد الصمد بلكبير، ابتداء من أواخر سنة 1995م، ولنفس الغرض، وخرج بنفس النتيجة.
لأول مرة ستسمح السلطة لهيئة الدفاع بزيارة موكلهم المحاصَر في بيته، يوم 27 أبريل 1994م، ولأول مرة تعقد الهيئة ندوة صحافية يوم 10 ماي 1994م أصدرت خلالها بيانا[2]، ذكَّرت فيه بالطعون التي تقدمت بها أمام المجلس الأعلى والتي تتعلق بالشطط في استعمال السلطة، كما كشفت أمام الرأي العام الوطني والدولي حقيقة الحصار اللاقانوني المضروب على الأستاذ ياسين، و”العراقيل المنصوبة في وجه قيام الدفاع بمهمته القانونية من جهة، وفي وجه أداء العدالة لوظيفتها الدستورية من جهة أخرى، ويصممون على مواصلة مؤازرة موكلهم وفق قواعد مهنة المحاماة، في إطار القوانين الجاري بها العمل إلى غاية الرفع النهائي للإجراء التحكمي المفروض على الشيخ عبد السلام ياسين”[3].
العفو الشامل الهامل..
في كل مناسبة دينية أو وطنية كان الملك يصدر عفوا عن عدد من المعتقلين السياسيين ومعتقلي الحق العام، وهو تقليد محمود في عمومه، غير أن الطلبة السجناء لم يطلهم أي عفوٍ ملكي طيلة 18 سنة قضوها وراء القضبان، وقد كانوا دائما هم الاستثناء! سنة بعد أخرى. وحتى عندما أعلن الملك يوم 9 يوليوز 1994م عن عفو “شامل” طال 400 من المعتقلين والمنفيين السياسيين[4]، استفاد منه حتى حاملو السلاح ومدبرو المؤامرات! في إطار صفقة سياسية مع المعارضة، وبضغط من أوربا وأمريكا، وقد استُثني منه الأستاذ وطلبة العدل والإحسان، إمعانا في العقاب والانتقام، وترسيخا لروح السلطوية التقليدية التي تتفنن في إذلال المعارضة عساها تأتي طائعة، أو تتلاشى خانعة. وهو ما لم يتحقق مع حالات قليلة، وعلى رأسها حالة الأستاذ ياسين.
آلم الأستاذَ استثناء الطلبة فخطَّ رسالة إليهم يوم 13 صفر 1415ه(22 يوليوز 1994م)، احتج فيها على إهمال معتقلي الرأي من معتقلي العدل والإحسان وغيرهم من المعتقلين الإسلاميين، عندما “تبودلت بين السلطة الحاكمة والهيآت المستفيدة من “العفو الشامل” في زعمه الهامل المائل في فعله، منح وهدايا على شكل وعود بحكومة ائتلاف ينعم فيه الجميع بالراحة والنيل، وعلى شكل عطايا سخية لصحافة تزغرد صفحاتها ابتهاجا بالحدث الفخم الضخم”[5]. كما أرسل الأستاذ في حينه برقية استفسار[6] إلى رئيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان مرفقة بلائحة معتقلي العدل والإحسان الذين أهملهم العفو.
يتبع…
[1] – تفتقد مفاوضات السلطات المخزنية المغربية -داخليا وخارجيا- أخلاقيات التفاوض ومعقولية التحاور، و”تتضمن نبرة استعلاء واضحة”، مما وسمها بالفشل وتفويت مصلحة البلد في كثير من الأحيان. انظر: أمزيان، محمد. دبلوماسية البارود، منشورات دار الحكمة، تطوان، ط1، 2019م، ص 213.
[2] – انظر نص البيان الذي أصدرته هيئة الدفاع في الملحق رقم 8 ضمن فصل الملاحق.
[3] – المرجع نفسه.
[4] – انظر: دو باران، جاك. “العفو الملكي يمكن أن يقلل من توتر الحياة السياسية”، Jacques de Barrin, “L’amnistie royale pourrait décrisper la vie politique,”، لوموند (باريس)، 23 يوليوز 1994م.
[5] – انظر نص الرسالة كاملة في الملحق رقم 9 ضمن فصل الملاحق.
[6] – انظر نص البرقية في الملحق رقم 10 ضمن فصل الملاحق.
أضف تعليقك (0 )