post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

<h1 class="wp-block-heading">مقدمة</h1>



كان العرب قديما يطلقون لفظ &#8220;الكتابة&#8221; على خياطة الثياب، لما في ذلك من ضمّ لأجزاء الثوب بالإبرة والخيط، وكتب فُلان بمعنى نظم الأجزاء في عقد. ومن ثمة تفيد الكتابة معاني الضم والربط والجمع، ومنها ضمّ الكلمات والأفكار وجمعها والربط بينها لصناعة نصٍّ يحمل مضامين ذات معنى وقيمة.



والكتابة عموما تعبيرٌ عن مرادٍ يقصد الكاتب نقله إلى غيره، وهي في دعوة الإسلام بيانٌ للدِّين وتذكيرٌ به وتجديدٌ له، إذ نشأت الكتابة وانتشرت مع النص/ الوحي، تدوينا وشرحا وتفقها وتأريخا، واستمرت الكتابة بلاغا وإبلاغا لرسالة الإسلام وحركيتها في الزمان والمكان&#8230; إلا أن الكتابة بشروطها وخصائصها ليست أمرا متاحا لجميع الناس، وإنما هي –بأنواعها- لذوي الكفاءة والاستعداد والتوفيق. وتكون ذات شأنٍ إن هي تمثلت شهادة صادقة وتعبيرا واضحا وبيانا قاصدا وبنيانا مسؤولا.&nbsp;



وتبقى الكتابةُ الهادفة مهمّة شريفة، تتطلب تحصيلا وتعلُّما وتحمّلا وصبرا ومداومة وتجويدا، محاولة بعد محاولة. ولذلك عُدت الكتابة جهادا، ورُتبت ضمن أبواب الجهاد (جهاد الكلمة)، ففي الحديث &#8220;أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر&#8221;<a href="applewebdata://03634236-C382-471B-BFE2-9D14BE82A079#_edn1">[1]</a>. وفي هذا السياق جاءت دعوة نبي الله موسى عليه السلام {اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا}، فالقولُ جهادٌ من الجهاد..وليس أي قول.



وعموما، يمكن إجمال المواصفات التي ننشُدها -في كتابتنا عموما وفي مقالاتنا خصوصا- في:



<h1 class="wp-block-heading">أولا: المقالُ هو قولٌ مأصول ومتنوعٌ</h1>



المقالُ قولٌ من الأقوال، ويكون ذا شأن إذا كان أصيلا يمتح من علم الوحي وقواعد اللغة وضرورات الحس والعقل والواقع ما به يكون ويتكون، ويتنوع بتنوع سياقاته ومقاصده، ولذلك جاء على أنماط متعددة في القرآن الكريم:



فمنه القول السديد {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا} [الأحزاب:70]



ومنه القول البليغ {وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا} [النساء:23]



ومنه القول اللين {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} [طه:44]



ومنه القول الكريم {وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} [الإسراء: 23]



ومنه القول الثابت {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]



ومنه القول الحسن {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت: 33].&nbsp;



ومنه القول الميسور {فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً} [الإسراء: 28]



ومنه القول العظيم {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً} [الإسراء: 40]



وهكذا، ينبغي أن يكون المقال ثقيلا وسديدا وبليغا&#8230;الخ، يعبر بوضوح وقوة عن روح ومعنى وموقف، ويُذكر بقيم الحق والخير والجمال والمصير، من غير وجل ولا كتمان {لتُبيننه للناس ولا تكتمونه}.



<h1 class="wp-block-heading">ثانيا: الاستيعاب والتذكير</h1>



لا بد للكاتب أن يستوعب منهاج المشروع الإسلامي في أصالته وشموليته وبنائيته وحركيته، ويجتهد في تبليغه والتذكير به والإسهام في بنائه، وقد سمى الإمام الغزالي فرعا من العلم &#8220;علم التذكير&#8221;، وفي هذا الباب تدخل قواعد التواصل وآداب الخطاب والمناظرة والدعوة بالتي هي أحسن، وسياسة النشر والتسويق والتبليغ. كما يوصى بتجنُّب الكتابة المستعجلة والنشر المرتجل، ومغالبة الثقافة السُّوقية الغالبة الهاجمة بالألوان والأموال&#8230;



<h1 class="wp-block-heading">ثالثا: القراءة قبل الكتابة وبعدها</h1>



&nbsp;لا كتابة جادة من غير قراءة جادة، وبذلك يجب أن نقرأ كثيرا لنكتب ما يفيد، ونحضُر مجالس العلم ونشارك في المذاكرة ونُدوِّن ونراجع، ونلج مواسم الخير بنيةٍ صادقة وقلبٍ سليم وعقلٍ متوقد، ونداوم على الكتابة من غير تكلُّف&#8230;ونكتب بمنهجية واضحة ونراعي الأمانة في الاقتباس والتوثيق&#8230;ولا نزال كذلك حتى تصير القراءة والكتابةُ وردا يوميا.



<h1 class="wp-block-heading">رابعا: الكتابة الكبيرة والكتابة الصغيرة</h1>



&nbsp;الكبير مِن الكُتُّاب مَن يهتمُّ بالأمور الكبيرة يقرأ فيها ويتشبَّع بها ويُذكِّر بها، ونقصد الأمور الكبيرة في الدنيا والآخرة، والآخرة خير وأبقى. والصغير من ينشغل بالأمور التافهة وبالصغيرة مقطوعة عن الكبيرة. الكتابة المنهاجية كتابةُ هداية إيمانية عملية. وليست كتابة جدل وغلبة وتهجم وغفلة. الكاتب الكبير يسكُن في كُتبه ويخلد بها، ويسجل اسمه في ديوان الخالدين. وأحيانا يتحول الكاتب إلى كتاب، فتحل روحه فيه ويحال عليه.&nbsp;حتى إن بعضنا يقول قرأت في البخاري، وهو يقصد كتاب الجامع الصحيح.



<h1 class="wp-block-heading">خامسا: الكتابة المجدِّدة الـمُشرقة</h1>



كان الإمام رحمه الله يُذكر في مجالس رابطة الكتبة بخصائص الكتابة الـمُشرقة، إذ الكتابة صناعةٌ عمرانية كما قال ابن خلدون، وصناعتُنا، أي كتابتنا لها خصائصها، أهمها أنها تجدِّد رسالة الإسلام في رفقها وعمقها ورحمتها وشموليتها، وتجمع بين المبتدأ والخبر، تجمع بين الله والآخرة والواجب الشرعي في ظروف زمانية ومكانية متغيرة، نكتب بحسن ظن وصلاح عمل ودوام تفاؤل، لا بانتظارية ولا كسل ولا حولقة متأففة باردة.



<h1 class="wp-block-heading">السادسة: المستقبلية والعالمية</h1>



&nbsp;نكتُب مطمئنين لقضاء الله وقدره، ونحن نستقبل عالم ما بعد العض والجبر، مع استحضار مخاض العالم الذي نعيش فيه، مع التحريض على العمل والاجتهاد جنباً إلى جنب اليقين في التغيير إلى الأحسن إن شاء الله، نكتب ونحن نراعي وحدة الرسالة وعالمية الدعوة، ونركز في خطابنا على المشترك الديني والأخلاقي والإنساني ونراعي قابليات الناس ونحترم اختياراتهم&#8230; ونطلع على كتابات الرواد ولا نبخسهم حقهم وإسهامهم ونتخذ فكرهم أرضية لا سقفا. ونجتهد وسعنا في &#8220;استنباط أحكام الله من كتابه وسُنة نبيه لهذا العصر ولهذه الشعوب الموزعة في الأرض، وبهذه الوسائل المتاحة&#8221;<a href="applewebdata://03634236-C382-471B-BFE2-9D14BE82A079#_edn2">[2]</a>.&nbsp;



<h1 class="wp-block-heading">سابعا: محاولة بعد محاولة</h1>



&nbsp;ليست الكتابة اندفاعا أو تطفلا أو توثبا، وإنما هي محاولة شُجاعة وتدريب واعتياد&#8230;وكأن مناديا يناديك: &#8220;اكتُب&#8221; وأنت ترد عليه: &#8220;ما أنا بكاتب&#8221;! &#8220;اكتُب: ما أنا بكاتب&#8221;! &#8220;اكتُب: ما أنا بكاتب&#8221;!&#8230; حتى تكتب. وفي ذلك قال الإمام رحمه الله: &#8220;كتبتُ &#8220;الإسلام بين الدعوة والدولة&#8221; و&#8221;الإسلام غدا&#8221; لأتعلم&#8221;، وفي الثمانينيات كلف الإمام أعضاء مجلس قطري تأسس قبيل خروجه من السجن من اثنين وعشرين عضوا بتأليف كتاب لكل واحد منهم، ويُشرف بنفسه رحمه الله على توجيه المبتدئ منهم إلى أن يصدر الكتاب. كما نتذكر تجربة &#8220;رابطة الكتبة&#8221;.&nbsp;



ومن حاول مرات ومرات لا أظنه سيتوقف عن الكتابة، وإنما يكتب ويراجع ويصحح ويتطور من حسن إلى أحسن، ويجوِّد كتابته بقراءة مكتوب غيره، والتدرج لا يعني نشر الكتابة الفطيرة.، وإنما يعني تحسين المستوى خطوة خطوة، مع المراجعة والتقويم والتصويب.



<h1 class="wp-block-heading">ثامنا: الروح العلمية وروح العلم</h1>



تعلُّم مهارات الكتابة ومنهجيات التحليل والتركيب والنقد والتقويم واجبة على من يتولى مسألة الكتابة، ليكتسب الخبرة والتجربة ويتقن ويجيد ويفيد، تلك هي الروح العلمية المشتركة بين الأمم. ومع ذلك تكون عينُه على روح العلم التي هي الهداية والخشية، لتكون كتابته كتابة ذاكرة ومُذكرة، مُستبصرة ومُبصِّرة. إذ &#8220;المنهاج العلمي في النقد، والملاحظة، والتحليل، والتركيب، والاختبار، انضباط ضروري وشرط أساسي لتحويل عقليتنا التقليدية اللفظية إلى عقلية صانعة منظمة دقيقة.&#8221;&nbsp;<a href="applewebdata://03634236-C382-471B-BFE2-9D14BE82A079#_edn3">[3]</a>، لكن لا نحيد عن بيان القرآن وبلاغ النبوة.



<h1 class="wp-block-heading">تاسعا وختاما: النظرة الكلية والنظرة الجزئية</h1>



وأخيرا، يكون مقالنا بيانا وبنيانا، وتكون الكتابة نافعة وماتعة إن هي صدرت عن رؤية كلية متكاملة، قال الإمام رحمه الله: &#8220;إنما ينفع علم الفقيه الأمة يوم يتكامل نظرة شاملة عن الكون وخالقه، والإنسان ومصيره، والتاريخ وسنة الله فيه، والإسلام وحركته في الزمان والمكان، وواقع المسلمين وأسباب تخلفهم، وضرورة تجديد دين الأمة ومنهاجه، والعقبات الخارجية والداخلية، النفسية والاقتصادية والاجتماعية أمام هذا التجديد، والزحف الذي يوصل جند الله إلى الغلبة والنصرة وتنظيم الدولة الإسلامية وتوحيد المسلمين، وتأهيل الأمة لقيادة العالم وحمل الرسالة. نحتاج لتصور إسلامي لكل هذا، تصور تكون روحه وباعثه ودليله العبودية لله تعالى، ويكون مدده ومادته ما يستنبطه العقل المؤمن المتخصص من كتاب الله وسنة رسوله وناموسه في الكون. علم الحق شرع به نكون مؤمنين حين نحقق مقاصده. ونواميس الله في الكون قدر على مقتضاه يسوس الله عزَّ وجل مملكته، فبإتقان علوم تلك النواميس نكون قد أعددنا القوة التي أمرنا بإعدادها، فاستحققنا الخلافة في الأرض.&#8221;<a href="applewebdata://03634236-C382-471B-BFE2-9D14BE82A079#_edn4">[4]</a>.&nbsp;



والحمد لله رب العالمين.



<hr class="wp-block-separator has-alpha-channel-opacity"/>



<a href="applewebdata://03634236-C382-471B-BFE2-9D14BE82A079#_ednref1">[1]</a>&nbsp;&#8211;&nbsp;أخرجه أبو داود (4344)، والترمذي (2174)، وقال: حديث حسن.



<a href="applewebdata://03634236-C382-471B-BFE2-9D14BE82A079#_ednref2">[2]</a>&nbsp;&#8211; عبد السلام ياسين،&nbsp;المنهاج النبوي، دار إقدام للطباعة والنشر والتوزيع، إستانبول، بيروت، ط5، 2022، ص&nbsp;<a>236</a>



<a href="applewebdata://03634236-C382-471B-BFE2-9D14BE82A079#_ednref3">[3]</a>&nbsp;&#8211;&nbsp;نفسه، ص 237



<a href="applewebdata://03634236-C382-471B-BFE2-9D14BE82A079#_ednref4">[4]</a>&nbsp;&#8211;&nbsp;نفسه، ص 233-234

مختارات شعرية (الجزء الأول)

قضايا فكرية

مقالنا: بيان وبنيان

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

إخوان الآخرة

مقالنا: بيان وبنيان

المجموع: اتباع عملي متوازن

الاعتكاف إقبال فردي جماعي على الله

الإمام الغزالي: المنقذ من ضلال السفسطة

الأستاذ أحمد الملاخ ثالث ثلاثة