post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

لن نسير قُدُماً، لن نعرف سوى النكسات تتلوها النكسات إذا لم نستمد قوى جديدة من نبع قيمنا الصافي. فالعاطفة الجماعية والخلق الجماعي هما دعامتا التنظيم المثالي للمجتمع الإسلامي المبني على التكافل والبذل. منذ الصدمة التي أصابت العالم الإسلامي حين احتك قبل قرنين بأوربا الحديثة، لم يتوقف المسلمون عن التساؤل: ما سبب تفوقهم علينا؟ لم هم أحكم تنظيما وأحسن حكما منا؟ لماذا؟… لماذا؟ أوقعتنا مقارنة أنفسنا بالآخرين في حرج عميق دفع بعضنا ممن تربوا في أحضان الغرب فمالوا إلى إصدار حكمهم النهائي: الإسلام هو المصدر الوحيد لمصائبنا! لكن هذا الحكم العدائي لم يعد له نفس الوزن الذي كان له، خاصة بعد أن تتالت النكسات المريرة، بعد أن صحا الفضلاء منا على ضرورة تفحص أعمق لذواتنا وذوات الآخرين. بل إن الذين استسلموا البارحة دون مقاومة، بدأوا اليوم يفقدون يقينهم أمام إلحاح الأسئلة اللاذعة التي لم تجد لها بعدُ جوابا: مسألة التنمية التي لم يَحُلَّ ركبها بديارنا، وقطار الديمقراطية الذي لم يصل إلى محطاتنا حيث تنتظره أفواه جائعة وشباب معطل وحقوق ضائعة. ننتظره نحن المنبوذين، مشغولين منشغلين بمخادعة أنفسنا حين نعطي ثِقَتَنا لِساسةٍ يُلَوِّحون للشعب بِشَبَحِ «مواثيق الشرف» ليتسلى بالأشباح جمهور مغفل. إن العودة إلى المسجد وإلى القرآن ستمكننا من الالتقاء بالنموذج المثالي للحياة الجماعية التي غابت عن حياتنا ولم تبقَ حية إلاَّ في ثنايا النصوص وفي قلوب الأتقياء والتقيات. سيتردد النداء الداعي إلى هذا النموذج ليبلغ الآذان: أن هلموا إلى العمل الصالح لإنقاذ أنفسكم، وقوموا لتبنوا مجتمعاتكم، وأقيموا الوزن بالقسط، بالعقيدة والشريعة! فالروابط الجماعية لنموذج المجتمع الإسلامي جوهرها البذل والإيثار وخدمة الغير، والنواة الحية للجماعة هي الأسرة، ليس باعتبارها خلية ضيقة، بل باعتبارها فضاء اجتماعيا آهلا بالأقرباء الأقربين والأبعدين الذين ندين لهم بحدبنا ورعايتنا. وبما أن قيمة كل حضارة تتحدد انطلاقا من معاملاتها لضعفائها (الأطفال، المرضى، اليتامى، الفقراء، المسنون، المستضعفون)، فإن الإحصاءات ستكذبنا إن ادعينا حاليا تحقيق أي إنجاز في هذا المجال. لكن النموذج الإسلامي المبتغى والنداء الإلهي يرسمان لنا الأفق، ويدلان على الطريق الموصلة إلى حياة جماعية أفضل وأعدل في حق هذه الأصناف من الناس. فالأمر الإلهي يخاطب المؤمنين، يحثهم على تكريم أمهاتهم وآبائهم أولا، وعلى إفاضة الخير على الأقرباء وعلى كل إنسان. أما الملاجئ التعِسة التي يلقي فيها الغربيون بآبائهم وأمهاتهم دون أن يشعروا بأي ذنب فلا تَمُتُّ بأدنى صلة إلى ما يحضنا عليه الله عز وجل من احتفاء مُشِع بالمحبة والامتنان للذين سهرا على رعايتنا وتربيتنا في الصغر. بل إن المؤمنين لا يفترون أبدا عن التضرع إلى ربهم أن يحفظهم من هذه الجريمة الكبيرة -عقوق الوالدين- امتثالا لأمر الله عز وجل: ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً وَآتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَٱلْمِسْكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ ٱلْمُبَذِّرِينَ كَانُوۤاْ إِخْوَانَ ٱلشَّيَاطِينِ وَكَانَ ٱلشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً﴾ (الإسراء، 23-27). سأتحدث فيما بعد عن التبذير وعن الأخوة الشيطانية للمبذرين، لكن لنلح قبل ذلك على أم الفضائل: الإيمان. لنذكر بأن مهد الإيمان بعد الأم التقية والأب الورع هو المسجد والمدرسة الملحقة به التي تستمد القوة والثقة من المخزون الجماعي. فالصلوات الخمس مناسبة يلتقي فيها المؤمنون ليتزودوا روحيا وخُلقيا حين يحتكون بجماعة المسلمين. احتكاك بالنفوس المتطهرة لازمٌ للمحافظة على الإيمان، كما أن إعادة التأهيل الدائم والتكوين المستمر ضروريان لكي تتمكن أطر المقاولة من مسايرة عجلة التقدم المتسارعة. وهناك حصص علاجية مصَاحبة للصلوات الخمس تغذي الإيمان وتدعمه، هي الندوات وحلقات الدراسة و«الموائد المستديرة» الـمُقامة على الحُصُر في المسجد، المخصصة للتذكير بالله والتناصح في الله. أعمدة الإيمان هذه يوصي بها النبي ﷺ ليعلمنا أن المتزودين منها تتلاقح أرواحهم باستمرار وتتعطر أنفاسهم. ففيها تتجسد الجماعة المتلاحمة في الدنيا، المتقاسمة في الأخرى عطاء غير مجذود. وفيها يظفر المؤمن بالعافية الخُلقية والسلام النفسي. وفيها يستحم ويتطهر في حوض الحب الأخوي. وفيها يستعد للانطلاقة الجديدة بعيداً عن مستنقع الأنانية والنفاق، مادّاً يد العونِ للبائس والفقير. ذلك هو الخُلُق الأصيل والكرم الصادق المنبثقان من الإيمان الحق بالله، المتميزان عن «الخلق» السياسي الحديث -خُلق المظاهر- وعن كرم التباهي الذين يحدثنا عنهما الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي جيل ليبوفتسكي، قائلا: «حين يُهيمن إعلام الصدَقة، يصبح النشاط الخُلقي نابعا من الحسابات الإعلامية بدل أن ينطلق من المبادئ الخُلقية، فيتزايد تحكم وسائل الإعلام في القضايا التي تنجح في إثارة الأريحية وتوجيهها، وتُمَكِّنُ التكافل من التجذر في الشعب، لكنها في نفس الوقت تُحرر الأفراد من الالتزام. فهي تملك القدرة على التعبئة الخيرية. لكنها تحرر القلوب من الشعور بالذنب (ففي مجال استهلاك الصور والاستعراضات الخيرية تمحو كل مأساة سابقتها) وتُساعد على تآكل واجب مدِّ يد العون إلى الآخرين بانتظام».



 تصَنُّعٌ إعلامي وتآكلٌ أخلاقي! لكن المنظمات غير الحكومية ما فَتِئتْ تُحقق إنجازات رائعة تجعلنا نأمل أن يأتي الغربيون يوما ما إلينا لنتعاون جميعا على ترسيم مجالنا الحيوي المشترك المخرب، وعلى التصدي للآلة الرأسمالية الطاحنة للحياة البشرية، لكي لا يموت بعد ذلك أيُّ طفل جوعا، وحتى لا تُستنزف طاقته الضئيلة من الصبح إلى المساء مقابل أجرة حقيرة.



عبد السلام ياسين، الإسلام والحداثة، ص: 225-227.

نموذج الحياة الجماعية

كيف نتعلم من سنة الله في التاريخ؟

جهاد محمد بن عبد الكريم الخطابي بعيون الإمام ياسين

القيم المحورية لنظام الحياة المادية الاجتماعية

تفسيخ اللغة العربية وإقصاؤها

قضايا فكرية

نموذج الحياة الجماعية

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

كرامة المرأة العاملة

سباق لطلب الزلفى

من شعب الإيمان الصوم

المؤمنة مشرفة مكلفة

رمضان وافى

من يحصي أنعما أوليتها؟

مقالات ذات صلة