والحج رحلة لها مضمون كما الرسالة لها مضمون، رسالة الحج هو التوبة إلى الله والإنابة إلى الله والافتقار إلى الله والانكسار بين يدي الله، فـ”أَنا عِندَ المُنكَسِرَةِ قُلوبُهُم” و﴿ إِنَّما الصَّدَقاتُ لِلفُقَراء ﴾، فينبغي أن تذهب فقيرا لتعود بالله غنيا، وتذهب ضعيفا لتعود بالله قويا، وتذهب لتعرض ذنوبك وعيوبك حتى تعود نقيا تقيا طيبا زكيا. ومضمونها الرحمة ﴿وَما أَرسَلناكَ إِلّا رَحمَةً لِلعالَمينَ﴾. فالإنسان يتزود في رحلة الحج برحمات يراها ورحمات يسمعها ورحمات يعيشها ورحمات يذوقها، فـ”الرّاحِمونَ يَرحَمُهمُ الرَّحمَن” و”ارحَموا مَن في الأَرضِ يَرحَمكُم مَن في السَّماء”. فإنت تتزود رحمة لتفيض بها على غيرك، وأنت تغرف بمغرفة قلبك من رحمات ربك، التي فيها هناك “ما لا عَينٌ وَلا أُذُنٌ سَمِعَت وَلا خَطَرَ عَلى قَلبِ بَشَر”، لتعود فتغرف بمغرفة لسانك وعملك وأخلاقك وسلوكك من تلك الرحمات خيرا تطعمه غيرها.
ذلك أن رسول الله ﷺ كلما عُرض عليه من الأمور أمران كان يختار أيسرهما، والأيسر من بين أنواع الحج التمتع؛ لأنه فيه تحلل ما بين العمرة والحج. وأيضا فإن هذه الفرصة تجعل الإنسان مقبلا على أمر جلل، فقد لا تتاح الفرصة ثانية. فعلى الإنسان أن يفر إلى الله عز وجل قاصدا إياه في الحج بالكلية، مستعدا ومعدّا بجميع ما يتطلبه هذا الأمر من الإعداد والاستعداد.
وعندما تعلم أن الإنسان عندما يحرم فكأنه يلبس كفنه وهو لا زال حيا حتى يولد من جديد، فكأنه ميت فيولد ﴿أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا﴾، وعندما تعلم أن الحج أيضا ميقات، فهو في إعداد واستعداد وفي الوسط هو ميعاد وهو في الأخير ميلاد، وميلاد شرعي.
لهذا، فالحج نيات. الحج بنية “إِنَّما الأَعمَالُ بِالنِّياتِ” فكلما صفت النية كان حجك قصدا والمقصود هو الله سبحانه وتعالى. ثم قال: “الحج نوعان؛ حج الأشباح وحج الأرواح. وإن شئت فهي أنواع ثلاثة، وحج أشباح وأرواح. حج الأشباح مرة في العمر أو في العام، وحج الأرواح على الدوام، فإذا جمع الله شبحك إلى روحك في ذلك المقام فذاك هو التمام.
جعل الله الحج فريضة ليشهد المسلمون -أي ليحضروا- منافع لهم. قال الله سبحانه وتعالى يخاطب إبراهيم عليه السلام: {أَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ
عبادة هي من أسمى العبادات تجمع المسلمات والمسلمين على صعيد واحد ليتعارفوا ويتشاوروا، ويشهدوا منافع لهم. شُعْثٌ غُبرٌ تجردوا لله عن حولهم وقوتهم وجاءوه يجأرون إليه بالدعاء والتلبية، والتمسح بكسوة بيته، وتقبيل حجره الأسود المقدس..
ويجمع الحج في مكان وزمان محدديْن كافة المسلمين ليُشعِرهم أولا أنهم في الدنيا عابرو سبيل، يذكرهم لباسُ الإحرام بكفن الموت، ويذكرهم شظف الحياة وشَعَثُ الحالة الجسدية وتعب التنقل والحمْل والحط أن الدنيا دار امتحان وتَعب لا دار استرواح ومتعة. وليشعرهم ثانيا أن المسلمين أمة واحدة، يَمثُلُون أمام قبلتهم الحسية الواحدة
هَفَتْ رُوحِي إِلَى تِلْكَ الْبِقَاعِ … أَنَا الْمَرْهُونُ فِي حَالِي بِقَاعِي
وَلَوْ أَسْطِيعُ طِرْتُ إِلَى حِمَاهَا … وَلَمْ أُسْمِعْ لِجِيرَانِي وَدَاعِي
يوم عرفة أكمل الله فيه الملة، وأتم به النعمة، قال عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- : إن رجلا من اليهود قال : يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا. قال : أي آية؟ قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا،
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “ما من أيام، العمل الصالح فيها أحب إلى الله، من هذه الأيام، يعني أيام العشر. قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه، وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء ” رواه البخاري.