رسول خاتم ورسالة خاتمة. لا تحتاج لتكميل ولا تطوير. نُزُلاً من حكيم حميد. لا يعني هذا أن العقل المؤمن، وهو أيضا خَلْقُ حكيم حميد، قد عطل، وأن تحديات العصور للمسلمين بمشاكلها المستجدة يمكن أن تواجه ببلادة حامل الأوقار الذي لا يعرف ما يحمل، ولا روح ما يحمل، ولا أهمية ما يحمل، ولا سرّ ما يحمل. نحن حاملو رسالة، لكن هل نقدر معنى أن معنا آخر كلمة خاطب بها الخالق خلقه، وأكمل رسالة أنزلها رب السماوات والأرض لعباده؟
دأب رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ فُرِضَ عليه القتالُ وعلى أصحابه عقِب خروجهم من مكة يُجَيِّشُ الجيوش، وأصبحت المدينة معقِلا وحِصْنا. منها تنبعث البُعوثُ والمغازي، وفيها يتحصَّن جند الله إذا هوجموا. بعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم السَّرايا من المدينة إلى كلِ بقاع الجزيرة، وغزا منها بنفسه. فكان عددُ مغازيه التي قادها سبعا وعشرين كما جزم بذلك ابن الجوزي والحافظ العراقي رحمهما الله.
قال مالك: «ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي ﷺ فيُنظَر إلى لونه كأنه نَزَفَ منه الدم، وقد جفَّ لسانه في فمه هيبة لرسول الله ﷺ. ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير، فإذا ذُكر عنده النبي ﷺ بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع. ولقد رأيت الزُّهري، وكان لَمِنْ أهْنَإ الناس وأقربِهم، فإذا ذكر عنده النبي ﷺ فكأنه ما عرفَك ولا عرفته. ولقد كنت آتي صفوان بن سُلَيم، وكان من المتعبدين المجتهدين، فإذا ذكر النبي ﷺ بكى، فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه ويتركوه».
يتحدث المتحدث عن معرفة الله تعالى، ومقامات القرب منه عز وجل، ويقتبس من كلام أهل الله وينتخل، ويبحث ويجمع الدرر والجواهر من كلامهم، وإذا أوتي فصاحة اللسان وذلاقته، وجمال المظهر ووسامة الوجه، أبهر وأدهش، وقد يتعلق الناس به تعلقا يفضي بهم إلى الولع بكلامه دون أن يخطو بهم خطوة إلى ربهم. فهل انتهت الدلالة على الله تعالى في هذا المستوى من الكلام والانتشاء أم إنها شيء آخر؟ وما هي الدلالة على الله تعالى الجامعة لأمر الدين؟ وهل السلوك إلى الله تعالى يستقيم دون الاهتمام بأمر المسلمين؟ وهل يمكن أن يدل على الله تعالى من يعيش تحت إبط الطاغوت مقدما الولاء غير المشروط له؟
ها هو الإنسان في دار مُتسعة الأرجاء بَرا وبحرا، كثير الأرزاق، وها هو مُنَعَّمٌ بحواسه وكمال جسمه وصحته، وها هو تُبْعَثُ إليه الرسل، وها هو تخبره الرسل أنه مدعُوٌّ لدار النعيم المقيم في الجنة، لكنه موحول في الدنيا، مُعلَّق بها بواسطة غرائزه، مفتون فيها بتربيته، بأسرته، بمجتمعه، بمكانته في هذا المجتمع، بأفكاره، بغرائزه، بطموحه الدنيوي، بما يقع عليه من ظلم، بما يظلم هو الناس. وحقُّ الإنسان في التحرر من كل هذا الذي يصرفه عن ربه، يلهيه عن مصيره إليه في دار البقاء، هو مَجْمَعُ حقوقه في الإسلام ومدارُها.