وإن الله تعالى أمر بالعدل والإحسان. فالذي كان يمسك البيت النموذجي والزوجين الفاضلين والمجتمع الأول ضوابط العدل والحقوق المؤداة، ثم الإحسان بهذا المعنى الأول للإحسان. قَلع المؤمنات والمؤمنين الإيمانُ والتطلعُ إلى مقامات الإحسان من أرض المشاحّة والمخاصمة على الحقوق. توَّج الإحسانُ العدلَ وتخلّله وسكن بين ضلوعه. فالمرأة الزوج تصبر عن بعض حقها إحسانا واحتسابا، والزوج الرجل يجتهِد ليوفيها حقها ويزيد خوفا من الله ورجاء في مثوبته وقربه.
تعد المرأة المؤمنة التقية الصالحة المصلحة عضوا مؤثرا وفاعلا في المجتمع، تهتم وتتهمّم بمصير خلق الله وتشارك شقيقها الرجل في عملية التغيير والتعبئة والبناء، تتغلغل في الشعب وتختلط ببنات جنسها ناصحة، موجهة وداعية، تمد يدها للمساعدة وتفتح قلبها وبيتها وتجتهد في التبليغ عن رسول الله ﷺ، وتبذل كل ما بوسعها لخدمة دعوة الله تعالى، مضيئة لطريق الناس بإعانتهم على التوبة وفهم شرع الله وتطبيقه وتبليغه والفوز برضى الله والقرب منه.
جاءت الكشوفات العلمية والآلات العجيبة في عصرنا بصور السدائم في الأبعاد السحيقة للكون، وأخبرتها الرجَبِيَّات (الأميبات) بأن الحياة ظهرت بسيطة على هذا الكوكب الصغير، التافه بإزاء ملايير ملايير النجوم، منذ مليارين من الأعوام. وأنبأتها الحفريات أنه بعد مآت الملايين من السنين تطورت الرجبية وتركبت فظهر كائن معقد، تطور بعد كذا وكذا من ملايين السنين حتى صار سمكة، ثم زاحفة خرجت من البحر، ثم لَبونة تكيفت بالبيئة وصارعت التغيرات الحياتية حتى تسلقت الشجرة، وإذا على الشجرة قرد، وإذا القرد ينزل، أو ابنُ عمه، إلى الأرض، فإذا هو بشـري، ويتطور حتى يصبح أنا وأنت. هذه هي الخرافية التطورية التي تشكل قاعدة «الثقافة العالمية».
السؤال الحر ابتداءً، السامي أهدافاً وغاية، يصفني أنا أمةَ الله بأنني أنا وأُمتي حَمَلَةُ رسالة إلى الناس كافة، نتعبأ لذلك المرمى البعيد، ونُشرف على ذلك الجهاد الطويل النفَس البعيدِ الـمَدى، لا من زاوية مقهورية الأمة وتسلط الغرب وغزو الصرب، لكن من وِجهة نظر مَن هم قدَرٌ من قدر الله. من وجهة نظر إيجابية لا ردَّ فِعْلٍ. هجوما بكلمة الله لا مجرد دفاع عن هُوَيّة.
إن تخطي العقبة واقتحامها إيذان بالتحلي بالصبر واليقين، وباستنفاذ كل الأسباب المعينة على هذا الاقتحام أثناء السلوك إلى الله. ونخص بالذكر هنا سلوك المؤمنة إلى ربها وما يعترضه من عقبات. فما دلالات مفهوم اقتحام العقبة؟ وما العقبات التي تعترض سلوك المؤمنة الفردي والجماعي؟ وما المفاتيح المنهاجية لتجاوز هذه العقبات؟ وكيف نستلهم ذلك من خلال نساء صدقن في سيرهن نحو العلي الكريم مقتديات في ذلك بالصحابيات الجليلات. تحدين الصعاب وأصبحن رمزا للتضحية والصبر والاستماتة يقينا في موعود الله عز وجل، وبأن النصر صبر ساعة، وبأن اقتحام العقبة “تحرير وعدل وسيادة”
على مدرجتهن تجد المؤمنات قُبّرات عمياوات مصابات بشتى أنواع العمى، وبدرجات من غَشاوَة البصيرة، وأصناف من غَشاوة الفكر، وطبقات من ركام الجهل بالإسلام أو الأحكام المسبقة المخطئة عن الإسلام، أو العِداء السافر للإسلام.
لو كانت الدنيا مَحطَّ الرحال، والرفاهية المادية هي الغاية التي من أجلها وجد الإنسان لكان النموذج راقصة حسناء مغنية في عواصم الغرب تعبدها الجماهير، وتنهال عليها الأموال، وتحظى بالاحترام، وتنعم بملذات الحياة تَعُبّها عَبا. أمّا والإنسان أوجدَه غيره، ما وُجِد من ذاته. أمّا والراقصة الممثلة الناعمة تنتحر يوما بعد أن شربت كأس الحياة حتى الثُّمالة فكرهت الحياة، أمّا والحضارة الصانعة آلة عملاقة تدير الإنسان حول أصبعها من حيث يظن هو أنه المحرك، أمّا والتقدّم الخطيّ يُفقد الإنسان معناه كلما تقدم به منطق الآلة، فإن النموذج الماديَّ المتمثل في بنت رائعة المظهر من بنات الدنيا، مُتخمة من لذات الدنيا، إنما هو مثال لتقهقر الإنسان، وشقاء الإنسان بمكتسباته المادية.
في الفصل الـمُقبل إن شاء الله نتحدث عن القوامة. ونبدأ هنا في استكشاف وظيفة المرأة من خلال هذه الآية الكريمة، ومن خلال التكليف العام الشامل للزوجين الرجل والمرأة في خطابه تعالى العام: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾. في الخطاب العربي يُغَلّب التذكير في الحديث عن الجمع.
أول ما نتبين من وظيفة المرأة في الآية الكريمة أنها حافظة للغيب. كلمتان توحي إحداهما بمفهومها أن هناك ما يضيع إن لم تحفظه، وتوحي الثانية بأن هناك غيبا وحضورا. لهذا وضعنا للفقرة عنوان «حضرة الحافظية» إشارة للمفهومين الأساسيين في المسألة.
سمو روحي يقترب بالصائمة حق الصيام من الملإ الأعلى. حق الصيام هو كف الجسم عن الماديات الممنوعة شرعا، وكذا الجوارح واللسان عن المعاصي، وشغلها بالعبادة لتضفي على القلب روحانية تنسيه أثقال الأرض ليتعلق بمعاني السماء. عن هذا الصيام الكلي يقول الله عز وجل في الحديث القدسي : «كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فهُو لي وأنا أجزي به». الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه…
ومن حيث التفتنا إلى واقع المسلمين، خاصة في عصور الاستهلاكية المتباينةِ فيها المكاسبُ تباينا فاحشا المتفشي فيها الفقرُ والبطالة إلى جانب الترف والتبذير، نجد ما يُؤلِمُ القلب ويحزن النفس. الضرورة تدفع نساء المسلمين المستضعفين للكسب خارج البيت. ومُجاراة الأوضاع العالمية والموضات الجاهلية تدفع الأخريات لامتهان وظائف تستهلك المرأة في غير ما خلقت له. وتتفكك الأسرة، ويهيم مجتمع المسلمين في درب الانحلال الأسروي الذي بلغ مداه في المجتمعات الغربية المصنعة الصاخبة المنحلة.
في مقابل الوعد الإلهي الكريم، ولتستحق المؤمنة المراتب العالية في درجات الآخرة، عليها أن تُوَثِّقّ اختيارها بتوبة تامة تلزمُ نفسها بعدها بما التزمت به المسلمات الداخلات في الإسلام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: بايعنه بَيْعة فخَمةً مشهودة صارمة بما أخبر الله عز وجل به في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
يُشجَّع الصبيان والغلمان والفتيات على كل حميد من الخلق وجميل من الأفعال مما يقربهم إلى الله ويبعدهم من غضب الله. الصلاة، والقرآن، والرحمة بالضعيف، والنظافة، والصدق، والحياء. الحياء أبو الفضائل، الحياء من أهم شعب الإيمان. الحياء وقاية ذات حدّين: حياء من الله وانكماش عن فعل يكرهه الله، وحياء توقير واحترام وأدب ولياقة. فتلك الفضائل. أو ينقلب الحياء على صاحبه فتصبح العافية داءً، وذلك الخجل، قاتل الفضائل.
أرأيتِ أختَ الإيمان كيف ذكرت أعمال البر مباشرة بعد الإيمان القلبي بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيئين، وقبل الصلاة والزكاة؟ من صلت صلاتها وزكت فرضها فهي مؤدية لواجب عيني تحاسب عليه. أما من تبرعت بمالها وحنان قلبها على المحتاج من قريب ومسكين وسائل فقد أسْهمت في القيام بفرض كِفائيٍّ متعلق بذمّة الأمة، فارتفعت بذلك مرتبة عملها إلى أعلى. المصلية المزكية فرضَها ما عدَت أنْ بنَتْ أركان بيت إسلامها. أما المحسنة إلى الخلق المجاهدة بمالها وحنانها فهي تبني في صرح دين الأمة. بذلك كان لها الفضل. غرسة المرحمة في قلب المؤمنة يُعرف تغصينها وإزْهارها وإثمارها مما تشيعه حولها، الأقربَ فالأقرب، من أنواع البِر والإحسان والألطاف والأَرفَاقِ. ما بينها وبين ربها عز وجل لا سبيل إلى الاطلاع عليه، ونعرف المرحمة بآثارها. تصلح في الأرض حين يفسد فيها المفسدون. تبذر بذور الحب والرحمة في مجتمع الكراهية. تَتَفَرَّغُ لسماع شكوى المعاني. تنصَح المتخبطات في المشاكل وتشفع النصيحة بالبذل والعطاء والسعي لدَى من بيدهم مفاتِح المشاكل. تحوط برعايتها وعنايتها المنبوذات والمحرومات والملفوظين من أطفال البؤس. تشكر ربها على نعمه أن هداها للإيمان، فتتفجر ينابيع الخير في قلبها، تترجم الشكر والخير عطاء من مالها وحنانها ووقتها واهتمامها ووقوفها بجانب اليتيم، والمسكين، والمقهور، والأسرة المكسرة أو المهددة بكسر، تصلح ذات البين، وتأسو الجراح، وتحتضن النّوائب، وتَجْمع مع أخواتها العون المادي والعاطفي لرَأب الصَّدْع في البيوت، والتخفيف مما في البيوت من مآس وما في الشوارع من حُطام بشري.
لعلنا وقد عرَّجنا على منعطفات ومستقيمات من حياة الصحابة رضي الله عنهم نقرأ حياة عائشة وأسماء وسائر المجاهدات قراءة جديدة. نقرأهن على أنهن دروس تربوية تطبيقية مِن هُدَى الله وهَدْيِ المصطفى صلى الله عليه وسلم. دروس تتحدانا وتعلمنا وتقرِّب إلينا لنتحلَّى بالروح ونتحلى بالخلق وننبعث بالإرادة في بيئة أخرى أشد تعقيدا وأعظم ابتلاء من بيئتهن.
نطعم المؤمنات مثاليات ووعظيات إن رسمنا أفُق المطلوب المقصود في روح القرآن وكلمة الإسلام للمرأة دون أن نرسم خريطة المسافات بين وضعية النساء في مجتمع الفتنة والتخلف والفقر والتظالم والكراهية وبين وضعية يكون فيها عنصر الاستِقْرار في البيت المسلم -وهي الزوج الأم- متمتعا بوسائل الاستقرار المادي وفي مقدمتها السكنى…
إن العروج الروحي الذي قوّى النموذجين فاطمة وعليا على تحمل الشدائد ومجل الأيدي وإصابة الصدر ليس في متناول العامة من الخلق. ذاك كان بيت النبوة وجب أن يتألق مثالا في سماء الفضائل. لا تذهبنّ الحرفيّةُ بالمؤمنات والمؤمنين إلى اعتقاد أن الحصير ووسادة الأدم والليف وشظف العيش هي السر في فلاح من أفلح. إذا كان القلب فارغا من التعلق بالله تعالى فإن تساوِيَ الرجل والمرأة في شدة المعاش كتساويهما في رخائه، لا الشدة في حد ذاتها ولا الرخاء في حد ذاته يجلب السعادة الأخروية.