لعلنا وقد عرَّجنا على منعطفات ومستقيمات من حياة الصحابة رضي الله عنهم نقرأ حياة عائشة وأسماء وسائر المجاهدات قراءة جديدة. نقرأهن على أنهن دروس تربوية تطبيقية مِن هُدَى الله وهَدْيِ المصطفى صلى الله عليه وسلم. دروس تتحدانا وتعلمنا وتقرِّب إلينا لنتحلَّى بالروح ونتحلى بالخلق وننبعث بالإرادة في بيئة أخرى أشد تعقيدا وأعظم ابتلاء من بيئتهن.
نطعم المؤمنات مثاليات ووعظيات إن رسمنا أفُق المطلوب المقصود في روح القرآن وكلمة الإسلام للمرأة دون أن نرسم خريطة المسافات بين وضعية النساء في مجتمع الفتنة والتخلف والفقر والتظالم والكراهية وبين وضعية يكون فيها عنصر الاستِقْرار في البيت المسلم -وهي الزوج الأم- متمتعا بوسائل الاستقرار المادي وفي مقدمتها السكنى…
إن العروج الروحي الذي قوّى النموذجين فاطمة وعليا على تحمل الشدائد ومجل الأيدي وإصابة الصدر ليس في متناول العامة من الخلق. ذاك كان بيت النبوة وجب أن يتألق مثالا في سماء الفضائل. لا تذهبنّ الحرفيّةُ بالمؤمنات والمؤمنين إلى اعتقاد أن الحصير ووسادة الأدم والليف وشظف العيش هي السر في فلاح من أفلح. إذا كان القلب فارغا من التعلق بالله تعالى فإن تساوِيَ الرجل والمرأة في شدة المعاش كتساويهما في رخائه، لا الشدة في حد ذاتها ولا الرخاء في حد ذاته يجلب السعادة الأخروية.
هما مقتلان في هذه الأمة وفي كل أمة: الفطرة إن فسدت والحكم إن خبث. وما قامت إمبراطورية الرومان وحضارة أوربا الحالية إلا على استقرار وقوة في الأسرة التي تحفظ القيم وتورثها تقاليد رجولية، وعلى استقرار في الحكم ونظام. وانهارت روما لما أترفت الأسرة ثم تلا ذلك انهيار نظام الحكم وسقوط الإمبراطورية. وحضارة أوربا الآن في طريقها للاضمحلال، على مُكثٍ فلا يغررك تقلبهم في البلاد. علامات الاضمحلال فساد الأسرة مورثة القيم، وما يمسك هذه الحضارة إلا نظام الحكم المتمكن الديمقراطي، وهو إلى زوال.
كنا في إصلاح ما فسد. فلنعد إلى تنوير طريق العقل والحكمة. تنقشِع مراهقة قيس وليلى، فلا يبقى ما يعَوّل عليه ويُعتمد إلا الثقة والميثاق الغليظ: وهما القِوام الديني الخلقي في الزواج. لذلك أحاط الشرع الزواج بضمانات ليتحكم العقل في بناء أركانه لا العاطفة، وليكون البناء من حَجر الاختيار العقلي وحديد الأمانة الإيمانية لا من طِلاء الإعجاب بالمظاهر.
نقرأ عن عائشة المحدثة المكثرة التي تتقدم فتسامي أكثر الصحابة جمعا للسنة ورواية لها وحفظا وتعليما. نقرأ عن عائشة المجاهدة التي كانت تنقُزُ قِرَب الماء تجري بها سريعة لتسقي جرحى أحُد وتواسيهم. نقرأ عن عائشة الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر التي كانت تنتقد أمير المؤمنين عثمان، نقرأ عن عائشة قائدة الثورة على الإمام علي كرم الله وجهه لما اجتهدت فأخطأت، ثم ندمت على خطإها وتابت في آخر حياتها واستغفرت.
من يعنُفُ على المرأة إلا رجل عارٍ عن المروءة ناقص في الدين؟ نقرأ رفق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنساء في كلمته لأنجَشَة حين حدا أنْجَشَةُ بِإِبِلٍ تحملهن، فأسرعت الإبل، فأشفق عليهن الرسول الرؤوف الرحيم وقال لأنجشة هذه الكلمة الرقيقة : «رفقا بالقوارير!».
جاءت الكشوفات العلمية والآلات العجيبة في عصرنا بصور السدائم في الأبعاد السحيقة للكون، وأخبرتها الرجَبِيَّات (الأميبات) بأن الحياة ظهرت بسيطة على هذا الكوكب الصغير، التافه بإزاء ملايير ملايير النجوم، منذ مليارين من الأعوام. وأنبأتها الحفريات أنه بعد مآت الملايين من السنين تطورت الرجبية وتركبت فظهر كائن معقد، تطور بعد كذا وكذا من ملايين السنين حتى صار سمكة، ثم زاحفة خرجت من البحر، ثم لَبونة تكيفت بالبيئة وصارعت التغيرات الحياتية حتى تسلقت الشجرة، وإذا على الشجرة قرد، وإذا القرد ينزل، أو ابنُ عمه، إلى الأرض، فإذا هو بشـري، ويتطور حتى يصبح أنا وأنت. هذه هي الخرافية التطورية التي تشكل قاعدة «الثقافة العالمية».
إن العروج الروحي الذي قوّى النموذجين فاطمة وعليا على تحمل الشدائد ومجل الأيدي وإصابة الصدر ليس في متناول العامة من الخلق. ذاك كان بيت النبوة وجب أن يتألق مثالا في سماء الفضائل. لا تذهبنّ الحرفيّةُ بالمؤمنات والمؤمنين إلى اعتقاد أن الحصير ووسادة الأدم والليف وشظف العيش هي السر في فلاح من أفلح. إذا كان القلب فارغا من التعلق بالله تعالى فإن تساوِيَ الرجل والمرأة في شدة المعاش كتساويهما في رخائه، لا الشدة في حد ذاتها ولا الرخاء في حد ذاته يجلب السعادة الأخروية.
السؤال الحر ابتداءً، السامي أهدافاً وغاية، يصفني أنا أمةَ الله بأنني أنا وأُمتي حَمَلَةُ رسالة إلى الناس كافة، نتعبأ لذلك المرمى البعيد، ونُشرف على ذلك الجهاد الطويل النفَس البعيدِ الـمَدى، لا من زاوية مقهورية الأمة وتسلط الغرب وغزو الصرب، لكن من وِجهة نظر مَن هم قدَرٌ من قدر الله. من وجهة نظر إيجابية لا ردَّ فِعْلٍ. هجوما بكلمة الله لا مجرد دفاع عن هُوَيّة.
نعم، المرأة المسلمة كانت مظلومة ولا تزال، هي زميلة الرجل المسلم في ما تعانيه أمس وهي سجينة أمية، واليوم وهي بين نار الدعوة التغريبية ورمضاء المخلفات الانحطاطية. ما من شكوى يبثها حال المرأة المسلمة ويلغط بها دعاة «تحريرها» أمس واليوم إلا ولها نصيب كبير من الصحة : استعباد المدنية، والمعاملة المهينة للبدوية، والأمية الأبجدية، والجهل، والأجور البئيسة
من برجها الاستراتيجي الجهادي تبعث المؤمنة بُعوثا في طليعتها البنات والأبناء، حفاظا عليهن وعليهم على الأقل، إن لم يكن الاستعدادُ ليسبِق الفارِسُ مُجَلِّياً. جيل يتقدم بالدعوة قُدُماً بعد جيل، راسخا علمُه بما هي المهمة، ثابتة أقدامه، متوكلا على ربه. ويَكون برج المؤمنة مشتلاً لتربية الشجر الطيب، ومنطلقا للبعوث الغازية، لا مجَّردَ ملاذٍ في الأحضان، ومَرْفإٍ للمراكب المنكسرة، ومطعمٍ ومضجع.
غرسة المرحمة في قلب المؤمنة يُعرف تغصينها وإزْهارها وإثمارها مما تشيعه حولها، الأقربَ فالأقرب، من أنواع البِر والإحسان والألطاف والأَرفَاقِ. ما بينها وبين ربها عز وجل لا سبيل إلى الاطلاع عليه، ونعرف المرحمة بآثارها. تصلح في الأرض حين يفسد فيها المفسدون. تبذر بذور الحب والرحمة في مجتمع الكراهية. تَتَفَرَّغُ لسماع شكوى المعاني. تنصَح المتخبطات في المشاكل وتشفع النصيحة بالبذل والعطاء والسعي لدَى من بيدهم مفاتِح المشاكل. تحوط برعايتها وعنايتها المنبوذات والمحرومات والملفوظين من أطفال البؤس.
ضِمْن السؤال عن سر التعبئة الصحابية أسئلةُ واجبِ المؤمنات في بناء أداة حكم ونظامِ حكمٍ مستقرٍّ على القواعد الإسلامية. أي يكون الحكم فيه للشعب لا للسيف. يكون فيه الاختيار بشورى بين المؤمنين، الرجل والمرأة فيها سواء، لا بأشكال ديموقراطية أَفْرَغَتْ الإسلام من الساحة.
يَا أُخْتُ سِيرِي في رِكَا****بِ الصالِحاتِ الخَيِّرَاتْ
سِيرِي عَلَى نَهْجِ النَّبِيِّ****مُحَمَّدٍ خَيْرِ الهُدَاةْ
سِيرِي بِصِدْقِ القَصْدِ وَاسْـ****ـعَيْ لِلْمَكَارِمِ في ثَبَاتْ
كُونِي مِثالاً للصِّيَا****نَةِ والدِّيانَةِ والأَنَاةْ
وَتَطَيَّبِي بِمَنَاقِبِ الإحسا****نِ طابتْ مِنْ صِفَاتْ
وَاحْمِي، هُدِيتِ، مِن الأَفَا****عِي والعِدَا ظَهْرَ الأُبَاةْ
صلّى الإلَهُ عَلَى الذي****قد جاءنَا بالبيِّنَاتْ
على مدرجتهن تجد المؤمنات قُبّرات عمياوات مصابات بشتى أنواع العمى، وبدرجات من غَشاوَة البصيرة، وأصناف من غَشاوة الفكر، وطبقات من ركام الجهل بالإسلام أو الأحكام المسبقة المخطئة عن الإسلام، أو العِداء السافر للإسلام.