إذا استقر لدينا، والحديث دليـل قاطع، أن الذريَّة -صالحةً أو فاسدةً- هي من عمل الإنسان، لا ينفي كونُها خلقا لله كونَها عمَلاً للإنسان، فقد توجّه أمامَنَا عِظَمُ مسؤولية الإنسان عن ذريته: تصلح إن أصلحها، وتَفْسُدُ إن أساء تنشِئتها. فيترتب على هذا المنطقِ المستنير بنور الوحي ونور التوجيه النبوي منهاج المسؤولية البشرية عن صلاح الأجيال وفسادها. لا يهدي للصلاح إلا الله، لكن الهداية الإلهية يقيض الله لها بشرا يهدون. والغَوَايَةُ تضليل من شيطان جن أو شيطان إنس.
ثم يكون القرآن محور العملية التربوية ومورد العلم وجامع العلوم. لاسيما في السنوات التسع الأولى حين يتكون النسيجُ الأساسي للشخصية. هل يستوي في فرص علوق الإيمان بالقلب مَن غذينه بالأغاني رضيعا ومن ألقمنهُ مع ثدي اللبن ثدي التغني بالقرآن؟ قلت: فُرص العلوق. وإلا فالهداية الإلهية والرحمة تصيب من شاء الله كما يشاء الله.
لو تأملتَ معي أخي، وتأملتِ أختي يا حافظة الفطرة تكليفا وتشريفا، كَم من جرائد ومجلات وكتب تنشر في العالم، وكم غابات تحصد ليصنع الورق، وكم آلات تدور، وكم أفلام تصور، وكم آلات تَبُث، وكم أجهزة تلتقط، وكم برامجَ وكم موظفين. كل أولئك لا يتحدث إلا عن الدنيا وزينتها ولعبها وعبثها وملذاتها وشهواتها وأزماتها وسياستها واقتصادها واضطراب أهلها وهَوَس حركتها.
نهانا الله سبحانه عن تلويث ديننا بالقبيحة العظمى: الزنى. قال عز وجل: ﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً﴾.1 ومدح سبحانه مريم ابنة عمران التي أحْصنت فرجها فنفخ فيها سبحانه من روحه كما نفخ في آدم عليه وعليها السلام. المحصنات عِفَّةً قبلَ الزواج لهن من الطهارة نصيب مَرْيَمي. والمحصنات بعد الزواج العفيفات عن غير أزواجهن هن معين الطهارة في مجتمع اليوم، وصَبِيبُ السلامة والخلق وشرف النسب للأجيال اللاحقة.
إن العروج الروحي الذي قوّى النموذجين فاطمة وعليا على تحمل الشدائد ومجل الأيدي وإصابة الصدر ليس في متناول العامة من الخلق. ذاك كان بيت النبوة وجب أن يتألق مثالا في سماء الفضائل. لا تذهبنّ الحرفيّةُ بالمؤمنات والمؤمنين إلى اعتقاد أن الحصير ووسادة الأدم والليف وشظف العيش هي السر في فلاح من أفلح. إذا كان القلب فارغا من التعلق بالله تعالى فإن تساوِيَ الرجل والمرأة في شدة المعاش كتساويهما في رخائه، لا الشدة في حد ذاتها ولا الرخاء في حد ذاته يجلب السعادة الأخروية.
فاختيار الزوج الصالح في الإسلام له معايير مشروعة، وتستخير المؤمنة ربها وتستشير المأمونين والمأمونات على النصيحة. والزواج في الإسلام تكليف شرعي أنيط بذوي قُربى من لا زوج لها وبالأمة في قوله عز وجل: ﴿وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ﴾2. فالسعي في ذلك ومساعدة الباحثة والباحث عن زوج من فضائل الأعمال.
ومن حيث التفتنا إلى واقع المسلمين، خاصة في عصور الاستهلاكية المتباينةِ فيها المكاسبُ تباينا فاحشا المتفشي فيها الفقرُ والبطالة إلى جانب الترف والتبذير، نجد ما يُؤلِمُ القلب ويحزن النفس. الضرورة تدفع نساء المسلمين المستضعفين للكسب خارج البيت. ومُجاراة الأوضاع العالمية والموضات الجاهلية تدفع الأخريات لامتهان وظائف تستهلك المرأة في غير ما خلقت له. وتتفكك الأسرة، ويهيم مجتمع المسلمين في درب الانحلال الأسروي الذي بلغ مداه في المجتمعات الغربية المصنعة الصاخبة المنحلة.
ما يفيض عن الوقت والجهد الأساسي التربوي تصرفه المؤمنة إلى مجال التعبئة العامة، مجال السياسة الآنية. تأسيس المستقبل وبناء المستقبل أولا، القومة التغييرية طويلة النفس بعيدة المدى أسبق. المؤمنة مربية أولا، ثم هي إن كانت لها الكفاءة، وكان لها الطموح والصبر وفائض الحيوية، أمينة مسؤولة عما تتطاول إليه همتها وتستحقه قدرتها على العمل والضبط.
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ، وَيُثِيبُ عَلَيْهَا».
وَعَنْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: « إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا»»
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ»قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الْجَارُ، جَارٌ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ». وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَا زَالَ يُوصِينِي جِبْرِيلُ بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ»
المثال الغربي مغر خادع لعالم النسوة بشيطنته ونضاليته، ورفاهيته وغناه، وسيادة ثقافته في العالم، وإنجازاته في رفع المرأة من حضيض التبعية للرجل إلى أوج الاستقلال الاقتصادي. فتحسب التابعات المغربات من بنات جلدتنا أن تقليد الغربيات وتبني مطالبهن يضمن لهن الرفاهية إن حصلن على حرية التصرف في الجسم.
قاتلت الصحابيات رضي الله عنهن جنبا إلى جنب مع الصحابة. قاتلن وليس القتال عليهن فرضا. استأذنتْ عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد فقال: «جهادكن الحج». رواه عنها البخاري. وروي عنها أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم سألنه عن الجهاد فقال: «نعم الجهاد الحج».
حب الأنصار من الإيمان، والوَلاية في الله بين المؤمنين والمؤمنات يأمرون رجالا ونساء بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويوتون الزكاة ويطيعون الله ورسولَه. ذلكنّ أخواتِ الإيمان ما تعلمت الصحابيات في مسجد رسول الله من سنة رسول الله ومما أنزِل على رسول الله. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه مهاجرات ومهاجرين أنصاريين وأنصاريات.
بدون أسرة سِلْكُ نظامها المعاشرة بالمعروف والبِر والتعاون عليه، وبدون سياسة تتوسع من نواة وتشع من مركز، وبدون مستقبلية أخروية يتوقد همها في قلوب المؤمنات والمؤمنين، فالعيش هُونٌ. خشاش مع الخشاش، في غدير ضفادعَ تنِقُّ، ومستنقع بعوض يتآكل. صورة من المشهد الغثائي. يتامى من ديننا، بل عاقُّون ناقّون.
شيطنة الجن، وشيطنة “الفن”، وشيطنة الإعلام، وأفلام الْهَوَس، والإباحية باسم الحرية، وتبرج النساء، وانحلال الأسرة، وذهاب الحياء، وغياب سلطة الأبوين، وهما يهودان أو ينصران، أو يشركان أو يمجسان. كل ذلك يتحـامل على إفساد محضن الخير. سرقت من الأبوين ذرياتهم الشوارع، وسرقهم التلفزيون، واغتالهم كل شيطان مريد.
أما في تاريخ المسلمين فالعروة الأولى التي انتقضت هي عروة الحكم منذ استيلاء الغلمة. وبقيت الأسرة راسخة قرونا ولا تزال إلى حد ما. لم تزل راسخة قبل أن تأخذ رياح الفتنة الحضارية المعاصرة في زعزعتها.