الآلة الحضارية الرأسمالية
الآلة الحضارية الرأسمالية أداة جاهلية صماء عمياء. والجاهلية عنف على الإنسان وعلى الطبيعة، وجهل بما هو الإنسان وما مصيرُه وما معناه وما مغزى مروره أجيالا من الحياة الدنيا هذه المنظورة.
الآلة الحضارية الجاهلية تؤله الشهوة وتعبد المادة وتنكر البعث. لها من جهلها عربدة الوحش، ومن عنفها سطوة الوحش. بوثنيتها وعنفها قسمت العالَم شطرين: عالـمَ الشمال المترف وعالم الجنوب الـمُفَقّر الـمُحَقّر. آلة إنتاج جنوني يُلهبه التنافس. آلة استهلاك تؤججهُ نار الإشهار ويَنفخ فيه فن التسويق. ولاَ تسألُ الآلة الصماء العمياء عن فائدة الإنتاج ما دامت الأسواق تَلْتَهِمُ البضاعة كما لا تسأل عن محدودية الموارد الأرضية والمواد الخام ما دام الاستِهلاك ينادي هل من مزيد.
بجنون دورانها وبِنِيَّة مديريها المستكبرين ترهَن الآلة الاستكبارية حاضرنا ومستقبلنا ومستقبَلَ العالم، لأن رفاهية المستكـبرين تتوقف على حرماننا، و«سعادتَهم» تتغذى من بؤسنا.
الظّلم هو الطابَع العام للحضارة المادية الآلية. وسَمَتْ هذه الحضارة على جَبين الخلْق مَيْسَما يتمايز به الناس حسب قدرتهم الشرائية. لأَهْلِ الحضـارة من الجنس الأوربي المستعلي الحقُّ الأصليُّ في الحياة الكريمة، تدور السياسة والدبلوماسية والحرب لرَفع قدرته الشرائية. ثم لا بأسَ من التعامل الـمُربح مع كل طالب راغب منخرط في دين الاستهلاك ما دام يدفع. ولِمَنْ على وجه الأرض من البشَر الـمُعْدِمين الذين امتصت الآلة الاستكبـارية الاستعمـارية دماءهم الحقُّ في التقاط الفتات، والموت جوعا في إفريقيا وبنغلادش.
مِثالٌ للقسمة الـمُجحفة في الرزق بين الشمال والجنوب أن الوحدة الحرارية من أصل حيواني، وهي طعام الشمال الغني. يتطلب صُنْعُها إنفاقَ سبع وحدات حرارية من أصل نباتي. والوحدة الحيوانية طعام شريفٌ، لا يليق بالأبيض المترف ومن جلس على مائدته أن يستهلك السعرات النباتية كما يفعَل الفقير. لذلك فهو يطعم خنزيره وعجله سبعة أضعاف ما يُقيم بِنية الإنسان ويوفر صِحته ليضمن لنفسه طعاما من لحم ولَبن وجُبن وبيض.
حتى إذا فاض إنتاج الحبوب ومشتقاتها، وتكدست جبال من القمح ورُبىً من الزبد وأنهار من اللبن وأكوام من اللحم والبيض أنفق المترفون من أموالهم ومن حيلتهم وتقنيتهم التجارية ليُفنوا الفائض ويحددوا الإنتاج كيْلا تنخفض الأسعار العالمية فيضيعَ رقم من قيمة الإنتاج وتنخفض القدرة الشرائية للرجل الأبيض.
يتخلخل نمو الأطفال في العالَم المستضعف لنقص الغذاء، ويختل دماغ الأطفال لنقص مادة البروتيين في طعامهم. فلَو امتدت يدُ المنتج بالفائض أو ببعضه من اللبن والزبد، ولو أطعم المنتج قسطا من البطاطا والذرة والقمح أطفال المستضعفين بدل إبادتها بعد شِبَعِ الخنزير والعجل لكان للإنسانية المرتَهَنَةِ في قبضة الآلة الاستكبارية وجه به تفتخر الإنسانية، مُحِسَّة أن للوحش الأناني الكاسر قلباً رحيما رغم كل شيء.
إن الحضارة المادية وآلتها الصماء العمياء تسيء إدارة الكوكب، وتُجْحِفُ بحقوق ساكنيه، وتعرضه لأخطار مميتة. فبإدارتها وعلمها وقصدها تَسوءُ تغذية الإنسان المستضعف، وتتدهور حالة التربة، وتُبذر الموارد النباتية والحيوانية والمعدنية، ويُسْرَف في استعمال الطاقة، ويُهدّد الـمُناخ، ويلوث الجو والأرض والبحر.
تقع على رقبة الرأسمالية المستكبرة مسؤولية التدهور في التوازن العام للكوكب وساكنيه. نظامها وقانونها وتسيير لَوَالِبها تُـتيح أن يختطِف المجرمون البروتنات من أفواه الأطفال ليطعموها الخنزيرَ والعجل وتُـتيح تبذير موارد الأرض، بل تدفع إليه وتشجعه. وهكذا يتصاعد بؤس أكثر من ثلثي سكان المعمور، المخروب بفعلها، كلما تصاعد نمو عالم المستكبرين.
تستخدم الحضارة المدمرة أحدث الآلات لتخريب الأرض والفتك بمن فيها. لا أتحدث هنا عن صناعة الأسلحة وعن مكانتها الضخمة في الاقتصاد الاستكباري المسيطر، وعن الكيد الاستعماري لتأجيج حروب هامشية يُصفق لها سماسرة السلاح وصناعه. وأكتفي بذكر مثال واحد على عنف الرأسمالية على الإنسان وتخريبها لمناخه. وليس للاشتراكية الآفلة مزية في الميدان، بل هي أشد تخريبا وفتكا. كانت.
أذكر مثالا للتخريب ما فعلته وتفعله الرأسمالية المتوحشة بغابات الأَمَزون بالبرازيل. هذه الغابات تضم خمسة وسبعين في المائة من أجناس النبات والحيوان في العالم، ويعطي تفاعل نباتها مع المناخ أربعين في المائة من الأوكسجين الـمُنتَج في العالم. ماذا فعلت وتفعل بهذه الغابات الرأسماليةُ المتوحشـةُ الصماء عن احتجاج عقلاء العالم؟ تخريب جنوني لا يقف!
أضف تعليقك (0 )