التلوث الصناعي والأخلاقي
لا ينحصر تلوث البيئة الصناعية -وكل الأرض بيئة غزتها الصناعة قُلاًّ أو جُلا- في الدخان الكثيف من المعامل، وفي السموم الكيماوية، والمبيدات الحَشَرية، والإفرازات المتسربة إلى جوف الأرض المنتشرة في جو السماء الخانقة لأسماك البحر.
الغرب الغني يعيش في عالم ما بعد التصنيع، فهو يحاول بتقنيات متطورة إلكترونية معلوماتية إقامة صناعة نظيفة في بلاده، ليُحيل على بلاد المستضعفين وليبيعها بالثمن الـمُجْحِف وبمقدار، وبقانون السوق وسلطان الأقوى، صناعات ملوِّثة مثل الصناعات الكيماوية، والتحويلية وصناعة الحديد والصلب والتعدين والميكانيك.
ولا مفر لنا من توطين هذه الصناعات من الدرجة الثانية، ومن قبول قسمة العمل التي يسخر بمقتضاها أقوياء العالم ضعفاءه لإنجاز المهمات القذرة.
وإعدادنا للقوة كما أُمِرنا يطلب أن يكون لنا أفق ولو بعيد نرسمه أمامنا، ومقترحات نطرحها على الإنسان ونتطارحها بيننا لنؤسس نموذجا حضاريا بديلا عن الحضارة الجاهلية. وعلى الطريق العقبات والزمن والصبر والعمل.
أُفقُنا القرآن الذي فتح الأبواب للتعامل مع البيئة السياسية في قوله تعالى: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾.1 هل العدوان الصليبي المستمر قتال في الدين أو خارج الدين؟ وما حكم الشرع في الذي قال كلمة الكفر مُكرها وقلبه مطمئن بالإيمان؟
أفقنا فيما يخص البيئة الصناعية هو القرآن الذي قَبَّح الإسراف والتفاخر والتكاثر والشح والأنانية، ولعن المبذرين إخوان الشياطين.
قبح القرآن معاني يجسدها اقتصاد السوق، وتظهر فيها أخلاق السوق. صفات في النفس وأخلاق رديئة هي الأصل في انشقاق العالم إلى عالمين، وفي اكتظاظ الكرة الأرضية بالبؤساء، يتمتع عشرون في المائة من سكان الأرض اليوم بثمانين في المائة من خيرات الأرض، ولبؤساء الأرض الفُتات. ولهم النفايات المسمومة تصدر إلى بلادهم لقاء حفنة من الدولارات.
تتجسد الأخلاق الجاهلية الرديئة التي تحكُم سلوك الأنانية الاستكبارية، وتتجسد طبيعة السوق وضرورات التصنيع، في اكتظاظ الضواحي الصناعية،
وفي الضجيج المزعج، وفي السرعة والحركة الدائبة التي تُلهي الإنسان لا تترك له لحظة التفكير في مصيره بعد الموت، وفي الزراعة الوحيدة التي تُفقر التربة، وفي الفقر المدقع الذي يحمل الفقراء على قلع الأشجار فتنجرف التربة، وفي العدوان الرأسمالي الذي يغير على غابات العالم فيهدد مستقبل العالم، وفي انتشار الإسمنت المسلح يقلص المساحات الخصبة، وفي الأَسْفلت يبسُط الطرق السيارة لمن يملكون سيارات.
تتجسد الأخلاق الملوثة في التحريض الإشهاري الذي يجند النساء الدُّمى ليبعن بضاعات تافهة متجددة، يبدد تصنيعها مادة المعدن، وجهود المهندس، وطاقة المستضعفين الشرائية. تتجسد في طوفان الإعلام، وفي الصحف التي تزن بضع كِلُوَات. الإنسان الجاهلي أعظم ملوِّثات البيئة. إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين.
1 سورة الممتحنة، 8.
عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، ج 1، ص 114-116.
أضف تعليقك (0 )