الرحمة في العالمين
قال الله تعالى ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ (آل عمران: 159)
حمل الإمام القفّال رحمه الله هذه الآية على واقعة أُحد، قال: “فبما رحمة من الله لنت لهم يوم أحد حين عادوا إليك بعد الانهزام ولو كنت فظا غليظ القلب وشافهتهم بالملامة على ذلك الانهزام لا نفضوا من حولك، هيبة منك وحياء بسبب ما كان منهم من الانهزام، فكان ذلك مما لا يطمع العدو فيك وفيهم”[1]، فمن رحمته سبحانه بنبيّه صلى الله عليه وسلم أن قوّاه بما أودع فيه من فيض عطفه وعنايته حتى صحبهم، وصبر على تبليغ الرسالة إليهم، على ما كان يجد من اختلافهم، فأصل هذه الرحمة النبوية العظيمة من الله جل جلاله الرحمن الرحيم، يقول الإمام عبد السلام: ” كان رسول الله ﷺ لينا على المؤمنين، لينا لهم برحمة من الله الرحمن الرحيم. لم يكن فظا غليظ القلب. وقد من الله عليه بهذا الخلق العظيم في قوله ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾”[2].
إنَّ لِينه صلَّى اللَّه عليه وسلم المدهش قد تجلّى في كمال حُسْنِ خُلُقِه، وهو خلق عظيم شهدت به آيات كريمة في مواطن كثيرة، قَال تعالى: (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (الشُّعَرَاء: 215) وَقَالَ سبحانه: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ)، وَقَالَ سبحانه: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (الْقَلَمِ: 4) وَقَالَ جل شأنه: (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (التَّوْبَة: 128) وقال تعالى (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (الأنبياء: 107)، فلما كان عليه الصلاة والسَّلام إمام الْعالمِين، لزم أن يكون أكثرهم حلما وأحسنهم خلقا، “وإنّ كمال رحمة الله في حق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن عرّفه مفاسد الفظاظة والغلظة”[3]. وممّا ينبغي الإلماع إليه في هذا المقام أن المقصود من البعثة أن يبلغ الرسول تكاليف الله إلى الخلق، وهذا المقصود لا يتم إلا إذا مالت قلوبهم إليه وسكنت نفوسهم لديه، وهذا المقصود “لا يتم إلا إذا كان رحيما كريما، يتجاوز عن ذنبهم، ويعفو عن إساءتهم، ويخصهم بوجوه البر والمكرمة والشفقة، فلهذه الأسباب وجب أن يكون الرسول مبرأ عن سوء الخلق، وكما يكون كذلك وجب أن يكون غير غليظ القلب، بل يكون كثير الميل إلى إعانة الضعفاء، كثير القيام بإعانة الفقراء، كثير التجاوز عن سيئاتهم، كثير الصفح عن زلاتهم، فلهذا المعنى قال: ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ولو انفضوا من حولك فات المقصود من البعثة والرسالة”[4].
إن ما اتصف به نبّينا عليه الصلاة والسلام من السهولة والليونة والرفق بالأمة، اتصف به “ورثته من الأولياء العارفين، والعلماء الراسخين، ليتهيأ لهم الدعوة إلى الله، أو إلى أحكام الله، ولو كانوا فظاظاً غلاظاً لانفض الناس من حولهم، ولم يتهيأ لهم تعريف ولا تعليم، فينبغي لهم أن يعفوا ويصفحوا ويغفروا ويصبروا على جفوة الناس، ويستغفروا لهم، ويشاوروهم في أمورهم، اقتداء برسولهم، فإذا عزموا على إمضاء شيء فليتوكلوا على الله إِنَّ اللَّهَ يُحِب الْمتوكّلين”[5].
هؤلاء الورثة العارفون هم “صنف من الأولياء، أعلاهم مرتبة وأقربهم قربا وأضْوَأُهم قلبا. هم رحمة في العالمين يُشعون على الخلق من نور النبوة الذي ورثوه من رسول الله ﷺ الذي أرسله الله رب العالمين رحمة للعالمين”[6]. فالمولى عز وجل بسط هؤلاء مع خلقه ليكونوا نجوم بدر مضيئة، هادية للحيارى التائهين، ورجوما للشياطين الماردين.
إن هذه الآية الكريمة الجامعة ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ “فصَلَتْ الحدودَ بين الفظاظة والعنف وبين الليونة واللطف. فبالعفو الدال على سلامة القلب، وبالاستغفار لإخواننا الدال على وَلائنا إياهم في الله، وبالشورى في الأمر الدالةِ على الرغبة في التعلم وإشراك إخواننا في أمرنا ينفسح أُفُقُ الوَلاَية طَيِّباً وَدوداً. لكنها الـمُيوعة إن غابت لحظةُ العزم وصرامة القرار تتبعهما الطاعة”[7].
[1] ـ الرازي، مفاتيح الغيب، دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة الثالثة، السنة 1420 هـ ، 9/407 ـ 408
[2] ـ عبد السلام ياسين، الإحسان، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، الطبعة الثانية، السنة 2018م، 1/412
[3] ـ الرازي، مفاتيح الغيب،9/407
[4] ـ نفس المصدر،9/407
[5] ـ ابن عجيبة، البحر المديد في تفسير القرآن المجيد، تحقيق أحمد رسلان، القاهرة، طبعة 1419 هـ، 426 ـ 427
[6] ـ عبد السلام ياسين، الإحسان، 2/67
[7] ـ عبد السلام ياسين، جماعة المسلمين ورابطتها، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، الطبعة الثانية، السنة 2018م، ص: 98
أضف تعليقك (0 )