مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسينمدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين
مدرسة الإمام المجدد
عبد السلام ياسين

قضايا فكرية

العقل والوحي في نظرية المنهاج النبوي 9|9

0
العقل والوحي في نظرية المنهاج النبوي 9|9

حاجة العقل المسلم إلى المنهاج النبوي

المنهاج في لغة العرب: الطريق على صيغة “مِفعال” التي تدل في على اسم الآلة كمفتاح ومصباح، أو اسم مكان كمِرصاد، أو أداة القسمة والعدل كميزان. والصيغة تحتمل المصدرية أيضا كمعراج، واصطلاحا “المنهاج هو الطريق الموصل للغاية ووضوحها، وتمامها وكمالها”)، ويفيد السلوك والوضوح. قال الراغب الأصفهاني رحمه الله : “النهج الطريق الواضح، ونهج الأمر وأنهج وضح. ومنهج الطريق ومنهاجه، فالنهج والمنهج والمنهاج معناها الطريق، ونهج يعني سار في هذا الطريق، أو قام بإجراءات تصل به إلى الهدف، لأن الطريق هو المعبر للوصول إلى الهدف)[1]، وفي لسان العرب: “المِنهاجُ: الطريقُ الواضِحُ. واسْتَنْهَجَ الطريقُ: صار نَهْجاً. وفي حديث العباس: لم يَمُت رسول اللَّه حتى تَرَكَكُم على طريقٍ ناهِجةٍ أَي واضحةٍ بَيِّنَةٍ. ونَهَجْتُ الطريقَ: أَبَنْتُه وأَوضَحتُه؛ يقال: اعْمَلْ على ما نَهَجْتهُ لك. و نَهَجتُ الطريقَ: سَلَكتُه. وفلانٌ يَستَنهِجُ سبيلَ فلانٍ أَي يَسلُكُ مَسلَكَه. و النَّهْجُ: الطريقُ المستقيمُ”).[2]

ولم ترد كلمة “منهاج” إلا مرة واحدة في القرآن الكريم، في قوله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا(المائدة:48)، حيث جاءت مقترنة بـ”الشِّرعة”، مما يجعله منهاج شِرعة مُنزَلة مع نزول الوحي، وليس اجتهاد زيد وعمر من الناس. منهاج الاستقامة والهدى ودين الحق، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(الملك:22)، والشِّرعة أمرُ الله المنزل الضابط للتكليف وشروطه وأحوال المكلفين وبيئاتهم، ويكون المنهاج هو التطبيق العملي للشريعة، وإنزالها على أحداث التاريخ في الإطار الزماني والمكاني والاجتماعي الاقتصادي السياسي المتغير المتطور، الذي تُمثل السيرة النبوية نموذجه الحي القابل للتجدد في رُوحه وإن تنوع الشكل واختلف الزمان. يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: “المنهاج النبوي ضروري لتفسير التاريخ والواقع، ضروري لفتح النظرة المستقبلية، ضروري لرسم الخطة الإسلامية دعوة ودولة، تربية وتنظيما وزحفا، ضروري لمعرفة الروابط الشرعية بين أمل الأمة وجهادها، ضروري لمعرفة مقومات الأمة وهي تبحث عن وحدتها، ضروري لإحياء عوامل التوحيد والتجديد، ضروري لمعالجة مشاكل الأمة الحالية قصد إعادة البناء”. )[3]

والحاجة إلى المنهاج لا تعني الحاجة إلى الدِّين، بل هي حاجة المتدينين أصلا إلى مصباح ينير لهم الطريق، إلى فهمٍ سليم يمنعهم من الانحراف أو السقوط، إلى يقظة قرآنية تجديدية كلية. قال الإمام الشاطبي رحمه الله: “وانظروا أن يكون عملكم إن كان اجتهادا واقتصادا أن يكون على منهاج الأنبياء وسنتهم”)[4]، فهو منهاج نبوة يتوجه إلى الإنسان ليُذكره بميثاق الفطرة الأول، ويهديه إلى الحق المنزل، وينبهه إلى الحذر من الغرور والاستكبار والغفلة، ويضعه أمام مسؤوليته في العالم أمام الله وأمام الناس. حتى يستقيم مؤمنا فاعلا ضمن جماعة المسلمين، مشعا باستقامته في العالمين، إذ المنهاج صراط واستقامة وإنجاز، فـ“الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه”)[5]، وليس “حيلة فكرية أو مهارة نظرية، أو أسلوب سياسي، أو يبني المجتمع من خارج بقهر الدولة”)[6]. واضح بلا اعوجاج في سلوك الفرد المؤمن متدرجا في مدارج الإيمان والإحسان، و واضح بلا اعوجاج في مسلك الجماعة المؤمنة المتراصة المتراحمة “رحماء بينهم وأشداء على الكفار. هذه السُّنَّة، وهذا هو المنهاج النبوي”).[7]

السالك ببينة على الطريق الواضحة لا بد أنه مصيب الرُّشد وبالغ القصد، وبذلك يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: “الدين شرعة ومنهاج. الشرعة ما جاء به القرآن، والمنهاج ما جاءت به السنة كما قال حبر الأمة سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. الشرعة خاطبت الإنسان، والمنهاج حقق النموذج الإنساني. “المنهاج” هو اللفظة القرآنية لا المنهج، المنهاج التطبيقي العملي المفصل المنظم المتدرج”)[8]. فعلى هذا تكون الشريعة أو الشِّرْعَةُ أمرَ الله المنزل الضابط للتكليف وشروطه وأحوال المكلفين، ويكون المنهاج هو التطبيقَ العملي للشريعة، وإنزالَها على أحداث التاريخ في الإطار الزماني والمكاني والاجتماعي والاقتصادي والسياسي المتغير المتطور، الذي تمثل السيرة النبوية والخلافة الراشدة نموذجه.

إذا كان المنهج ضروريا للمعرفة من خلال وظيفته في تقنين الفكر وترتيب الأولويات وتركيب العناصر، وفي غياب المنهجية تفقد المعرفة نظامها، وتفقد المصادر قيمتها، وتتوارى المقاصد الكلية وراء الجزئيات، وتضيع الحقائق في التجزيء والتعضية. وتسيطر ردود الأفعال على المواقف والقرارات والأحكام. فإن “المنهاج النبوي ضروري لتفسير التاريخ والواقع، ضروري لفتح النظرة المستقبلية، ضروري لرسم الخطة الإسلامية دعوة ودولة، تربية وتنظيما وزحفا،ضروري لمعرفة الروابط الشرعية بين أمل الأمة وجهادها، ضروري لمعرفة مقومات الأمة وهي تبحث عن وحدتها، ضروري لإحياء عوامل التوحيد والتجديد، ضروري لمعالجة مشاكل الأمة الحالية قصد إعادة البناء”.)[9]

المنهاج النبوي منهاج قرآنٍ مادام القرآن كلام الله تعالى ورسالته إلى الخلق، و النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم رسول من الله تعالى إلى الإنسانية يدلها على الله تعالى وعلى الطريق السالك إليه، بذلك كان القرآن كتاب هداية للإنسان؛ العروة الوثقى التي من استمسك بها هُدي إلي صراط مستقيم، “هو العلم، وهو المنهاج، وهو البرنامج، وهو النور الهادي إلى صراط الله… هو الفهم وهو العلم وهو الحياة”)()، به “ابتُنيت نفوس مؤمنة، ومجتمع مؤمن، وحركة في العالم إيمانية، بالقرآن عرف أهل القرآن الله عز وجل، وبه استناروا في سلوكهم النفسي ومعراجهم الروحي في معارج الإيمان. وبالقرآن كانوا القوة التي حطمت باطل الشرك، وبه أقاموا العدل”)[10]، ولا قومة للمسلمين من انحطاطهم ولا عزة لهم من هوانهم ولا ظهور لهم يبن العالمين ولا خيرية في كيانهم ولا وحدة لشتاتهم ما بَقُوا لا “يحْكُمون بحكمه في صغير الأمر وكبيره”.)[11]

إن من يتصدى لهَمِّ الإسلام والمسلمين وبيان رسالة الله تعالى إلى الناس أجمعين، لا مندوحة له عن منهاج النبوة المستمد من القرآن الكريم والنبوة الشريفة، يقول الأستاذ: “الدعاة إلى الله على بينة واتباع هم ورثة النبوة، لا منهاج لهم إلا منهاج النبوة”)[12] أما الذين يصنفون الإسلام كنظام فكري أو مذهب اقتصادي أو موسوعة ثقافية أو عبقرية قومية…فقد غفلوا عن كون “تمجيد النظام الإسلامي في السياسة والاجتماع والاقتصاد كأنه إيديولوجية، أي منظومة فكرية، تبُزُّ في المقارنة كل مذهب بشري ما هو في الحقيقة إلا مسخٌ للدين، إن لم نربط النظام الإسلامي لشؤون الأرض والناس بالمبدإ والمعاد، والألوهية والربوبية، ووحدة الخلق، ومصيرهم بعد الموت، وبالآخرة والبعث والخلود في الجنة أو النار. الفهم الصحيح هو ما كانت النظم السياسية الاجتماعية والاقتصادية فيه تأخذ مكانها باعتبارها فروعا للشريعة. واللب هو مصيرك يا إنسان إلى ربك، وعبورك هذه الدنيا لتُختبر فيها وتصير إلى جزائك”)[13] بهذين الأصلين العظيمين يعمل العقل المسلم في إطار “منهاج نبوة”، وأسعد الناس من عمل بالمنهاج وتمسك به، كما قال ابن قيم الجوزية رحمه الله: “وأسعدهم بها مَن سلك فيها المنهاج النبوي المحمدي، ولم ينحرف انحراف الغالين، ولا قصر تقصير المفرطين”.)[14]

خاتمة:

العقل المسلم تلميذ للوحي، يشترك مع العقل المعاشي في القدرات التدبيرية والإنتاجية، لكن مسلماته تختلف عن مسلمات التفكير الدوابي الذي يحسب أن الحياة دنيا بلا آخرة، والطبيعة خلق بلا خالق. يعمل العقل المؤمن مكتشفا المنهاج القرآني النبوي على بناء المعرفة أو اكتشافها وفق المقاصد الكلية الناظمة للرؤية المعرفية القرآنية. ليكون العلم الجامع أو علم المنهاج –وليست العقلانية المجردة أو المادية الوضعية- هو الجواب الإسلامي للأمة المسلمة عن الأسئلة الإشكالات المعرفية النظرية، وهو المفتاح المناسب لاقتحام العقبات وحل المشاكل العملية التي تتخبط فيها الإنسانية اليوم. يبدأ بالإنسان يذكره بكينونته ورسالته ومصيره، ثم يحرضه للصلح مع فطرته وأداء أمانة الاستخلاف الفردي والجماعي. يقول الأستاذ:“المنهاج موضوعه الإنسان، ومصير الإنسان في الدنيا والآخرة. والكون وأسراره ونواميسه تابع للإنسان، لا يستغني الإنسان عنه لأنه مجاله الحيوي ومصدر معاشه وعماد بقائه وقوته”)[15].

والحمد لله رب العالمين

[1]“الراغب الأصفهاني أحمد بن الحسين، مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق عدنان صفوان داوودي، دمشق، دار القلم، ط4، 1430هـ/2009م، كتاب: النون
[2]ابن منظور، لسان العرب، دار الجيل، بيروت، ط1، 1408هـ، 1988م، مادة: (ن ه ج)
[3]عبد السلام ياسين، نظرات في الفقه والتاريخ، ص:12
[4]الشاطبي أبو إسحاق، الإعتصام، تحقيق سليم بن عيد الهلالي، دار ابن عفان، ط1، 412ه/1992م، 1/111
[5]ابن كثير، تفسير ابن كثير، دار النهضة العربية للطباعة بيروت، ج1، ط5، 1417هـ، 1996م، ص26
[6]عبد السلام ياسين، القرآن والنبوة، ص 31
[7]عبد السلام ياسين، محنة العقل المسلم، ص: 31
[8]عبد السلام ياسين، نظرات في الفقه والتاريخ، ط2، ص: 10
[9]عبد السلام ياسين، القرآن والنبوة، ص: 13
[10]نفس المرجع، ص: 14
[11]نفس المرجع، ص: 15
[12]نفس المرجع، ص: 46
[13]نفس المرجع، ص: 89-90
[14]ابن قيم الجوزية، زاد المعاد في هدي خير العباد، تحقيق عبيدة أسامة بن محمد الجمال، القاهرة، مطبعة أبو بكر الصديق، 1426ه/ 2005م، 3/354
[15]عبد السلام ياسين، مقدمات في المنهاج، ص:25

أضف تعليقك (0 )



















يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لضمان حصولك على أفضل تجربة ممكنة. تعرف على المزيد