مقدمة:
اليقين صفة من أعلى صفات الإيمان والصلاح، ومقام من أرقى مقامات الصدق والفلاح، لا يهبه الله تعالى إلا لخاصة عباده من الأنبياء والأولياء والصالحين وحَسَنُ أولئك رفيقا. فما معنى اليقين؟ وفيم يكون اليقين؟ وكيف نتعلمه؟ ومن يعلمه؟ وما هي صفات الموقنين؟
اليقين في اللغة من أيقن يوقن إيقانا فهو موقن، ويقن ييقن يقنا فهو يقن واليقين نقيض الشك [ref]لسان العرب لابن منظور[/ref] ، واليقين طمأنينة القلب على حقيقة الشيء، واصطلاحا تصديق جازم لا يقبل الشك، واليقين والإيقان العلم دون الشك [ref]يقال: يقِنت الأمر بالكسر يقنا وأيقنت واستيقنت وتيقنت كلها بمعنى واحد، وأنا على يقين منه. وإنما صارت الياء واوا في قولك مُوقن للضمة قبلها وإذا صغرته رددته إلى الأصل فقلت مييقن والتصغير يرد الأشياء إلى أصولها، أنظر تفسير القرطبي الجزء 1، ص180[/ref] .
وقيل اليقين هو ارتفاع الريب ومشهد الغيب. وقد وصف الله المؤمنين بالإيمان بالغيب، والإيمان التصديق وإنما يصدق المرءُ الشيءَ حتى يتقرر عنده فيصير كالمشاهَد، والمشاهدة بالقلب هي اليقين [ref]فيض القدير ج 1 ص259[/ref] . فعِلم المخلوق بالموت مثلا هو علم يقين لا يصل له بصيص ريبة ولو لم يصبه، فإذا عاين الملائكة حوله وهو يُحتضَر حصل له عين اليقين وهو أعلى مرتبة من علم اليقين، حتى إذا فارق الموت إلى حقائق الآخرة العينية أدرك حق اليقين. والعلم والعين والحق ثم المعرفة كلها مراتب تُرتقى في الإيمان، فما السبيل إلى الترقي في هذا العلم وهذه المعرفة؟
اليقين علم قلبي
اليقين علمٌ يُتعلَّم ومعرفة تُدرك، ومسافة إيمانية تُقطع، علمٌ قلبي ومشاهدة وحق ومعرفة. اليقين هداية واستقامة ونور من الله يقع في قلب المؤمن الصادق في طلب وجه الله، الذي بذل النفس والمال والدنيا لله. ولا سبيل إلى هذا العلم بتكلُف الأعمال وتفعُل الأحوال، وإنما بتهيئة القلب وتطهيره وتزيينه. . قال سفيان الثوري رضي الله عنه: “لو أن اليقين وقع في القلب كما ينبغي لطار اشتياقا” [ref]فتح الباري ج1 ص48[/ref] كما ينبغي؛ “أن تعبُد الله كأنك تراه”.
لاحظ معي فتح الله قلبك للفهم الرشيد:
كما ينبغي…
لطار القلب…
القلب…
اشتياقا…
ليس اليقين برهانا فلسفيا، ولا استدلالا كلاميا، ولا إقناعا عقليا، ولا مطالعة فكرية، إنما هو نور من الله يقع في قلب عبدٍ مؤيد مِن عباد الله.
وتتعدد مراتب اليقين بتنوع عطاء الله تعالى للموقنين، ولا يحصر عطاء الله أحد، ولا يحصي كرمه عد. وعلم اليقين هو العلم بما أخبرنا الله به عن طريق نبيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وتصديق ذلك تصديقا جازما، وحق اليقين هو التحقق من ذلك التصديق حسا ومعاينة ومعايشة، وقيل عين اليقين “ما أعطت المشاهدة والكشف”، ونور اليقين من نور الله، قال الإمام أحمد رضي الله عنه: “اليقين نور يجعله الله في قلب العبد حتى يشاهد به أمور آخرته ويخرق بقوته كل حجاب بينه وبين ما في الآخرة حتى يطالع تلك الأمور كالمشاهد لها” [ref]طبقات الصوفية، ج1 ص 119[/ref] .
قال سفيان الثوري رضي الله عنه: “ابتداء اليقين المكاشفة، لقوله لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا ثم المعاينة ثم المشاهدة”، و قال أيضا: “اليقين أن لا تتهم مولاك في كل ما أصابك” [ref]حلية الأولياء، ج 10 ص 203[/ref] .
فسيدنا إبراهيم صلى الله عليه وسلم يعلم قدرة الله تعالى على إحياء الموتى علما يقينا لا يحتمل النقيض ولكنه أحب أن يشاهد ذلك عيانا ويترقى من علم اليقين إلى عين اليقين [ref]البداية والنهاية، ج 1 ص 167[/ref] ، وقال القاضي عياض رحمه الله: “لم يشك إبراهيم بأن الله يحيي الموتى ولكن أراد طمأنينة القلب وترك المنازعة لمشاهدة الأحياء فحصل له العلم الأول بوقوعه وأراد العلم الثاني بكيفيته ومشاهدته. وقيل أنه سأل زيادة اليقين وإن لم يكن في الأول شك لأن العلوم قد تتفاوت في قوتها فأراد الترقي من علم اليقين إلى عين اليقين” [ref]فتح الباري ، ج 6، ص413[/ref] . وقيل أن معنى قوله تعالى: أوَ لم تؤمنأي أوَ لم تصدق بعظم منزلتك عندي واصطفائك وخلتك؟ قال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله: سأل كشف غطاء العيان ليزداد بنور اليقين [ref]شرح النووي على صحيح مسلم ج2 ص184[/ref] .
فإذ أشرق نور اليقين ذهبت الحيرة وزالت المخاوف واطمأن القلب ونشطت الأعضاء للطاعة، وتوحد القصد وانكشف المنهاج. قال صلى الله عليه وسلم: “ما سبقكم أبو بكر بصوم ولا صلاة، ولكن بشيء وَقَرَ في قلبه”. [ref]قال الحافظ العراقي : أخرجه الترمذي الحكيم في النوادر مِن قول بكر بن عبد الله المزني[/ref]
الإيمان كله
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “اليقين الإيمان كله” [ref]حاشية ابن القيم 12 ص291، وذكر الإمام البخاري هذا الحديث في صحيحه موقوفا على ابن مسعود (فتح الباري ج1 ص48)[/ref] ، لأن أقوى زاد في السلوك إلى الله واقتحام عقبات النفس وإكراهات الواقع هي قوة الإيمان، إذ لما يستقر الإيمان في قلب العبد ويوفَّق في إتقان عبودية الجوارح تتشكل قوة اليقين التي لا تهزمها صروف الدهر.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: “اليقين هو أصل الإيمان فإذا أيقن القلب انبعثت الجوارح كلها للقاء الله بالأعمال الصالحة”، وإذا كان الإيمان شُعَبًا و مدارج للسالكين فكذلك اليقين ليس على مرتبة واحدة إنما هو على مراتب متفاوتة بتفاوت إيمان المؤمنين و قابليتهم وحظهم في السلوك إلى الله، وقبل ذلك ومعه وبعده بتوفيق الله تعالى ومنه وفضله وعطائه. وقد تنتهي أعمار الناس ولا تنتهي مدارج اليقين. قال صلى الله عليه وسلم للصديق الوفي رضي الله عنه وهما في الغار، والأذى يلاحقهما … “لا تحزن”. يقين مطلق في الله.
عندما يحزن الناس وينكشف ضعفهم وتطغى بشريتهم ترتفع هامات الموقنين عالية فيلتف من حولهم الضعفاء الصادقون . “ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟” يقين في الله، في معيته و نصره، ولو أجمع أهل الأرض قاطبة إنسهم وجنهم ليشككوه ما وجدوا عنده مثقال ذرة من الشك في الله، قال عز من قائل: أفي الله شكٌّ فاطر السماوات والأرض؟.
سُئل سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين! ما الإيمان؟ فقال: “الإيمان على أربع دعائم: على الصبر والعدل واليقين والجهاد”. مهمات هي دعائم اليقين يا مُدعي! ونفسي الغافلة أقصد. الصبر مع العدل واليقين مع الجهاد. الصبر الاقتحامي لا الصبر الانهزامي، والعدل القرآني لا العدل الكلامي والفلسفي، واليقين القلبي لا “اليقين البرهاني”، والجهاد الجامع لا القعود وطلب سلامة الطاعم الكاسي.
وبالآخرة هم يوقنون
اليقين تصديق ممتد من الدنيا إلى الآخرة، حال متصل من هنا إلى هناك من غير انفصال، قال الله تعالى: والذين يؤمنون بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك وبالآخرة هُم يوقنون [ref]سورة البقرة،4[/ref] إيمان بكل ما جاء به الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم من شعائر وشرائع وأخلاق وأخبار، وبما جاء به النبيئون مِن ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن به مؤمنون. وبالآخرة هم يوقنون بما في الآخرة من حياة برزخية وبعث ونشور ووقوف وحساب وميزان وشفاعة وجنة ونار، يوقنون بالرجوع إلى الله مولاهم الحق الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم، والظن هنا بمعنى اليقين. “ولا يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح” [ref]فتح القدير للشوكاني، ج7[/ref] سَأل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدنا حارثة رضي الله عنه: “كيف أصبحت يا حارثة؟ قال: “أصبحت مؤمنا حقا. قال فانظر ما تقول فإن لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ قال: عزفت نفسي عن الدنيا وسهرت لذلك ليلي وأظمأت نهاري، وكأني أنظر عرش ربي بارزا وكأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها. قال صلى الله عليه وسلم: يا حارثة عرفت فالزم (قالها ثلاثا) رَجلٌ نوَّر الله قلبه” [ref]شعب الإيمان ج 23، و المعجم الكبير ج9[/ref] . في قلبه نور به يرى ما لا يراه غيره: العرش والجنة والنار. عرف معرفة اليقين، فلزم الصيام والقيام ومراقبة الحق عز وجل.
و قيل في تفسير قوله جل وعلا: يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية: المطمئنة هي الساكنة الموقنة بالإيمان وتوحيد الله، الواصلة إلى ثلج اليقين بحيث لا يخالطها شك ولا يعتريها ريب. قال الحسن رضي الله عنه: هي المؤمنة الموقنة. وقال مجاهد: الراضية بقضاء الله التي علمت أن ما أخطأها لم يكن ليصيبها، وأن ما أصابها لم يكن ليخطئها وقال مقاتل هي الآمنة المطمئنة. وقال ابن كيسان: المطمئنة بذكر الله، وقيل المخلصة: قال ابن زيد: المطمئنة لأنها بشرت بالجنة عند الموت وعند البعث [ref]فتح القدير، ج 13[/ref] .
يهون الله سبحانه على المؤمن الموقن مصائب الدنيا بحسب ما معه من يقين، ليحقر ما يعظمه الغافلون ويفضل ما يدوم على ما يزول، فيحيى موقنا ويموت موقنا مطمئن القلب، حتى يلقى الله بالشوق واليقين، ويقال له: “على اليقين كُنتَ وعليه مُتَّ وعليه تُبعث إن شاء الله” [ref]رواه ابن حبان وابن ماجة من حديث أبي هريرة وأحمد من حديث عائشة. فتح الباري ج3 ص238[/ref] . اللهم اجعلنا كذلك.
“تعلموا اليقين”
ليس اليقين مجرد اعترافات وقناعات نظرية، يتلوها التلهي والحلم، أوالتأفف والحوقلة القاعدة، إنما اليقين الحق هو حمل هم الجهاد على بصيرة، وعلى جميع المستويات وفي مختلف الظروف، ولا يمكننا أن نفهم اليقين أكثر من فهم كبار الصحابة رضي الله عنهم له، فقد تعلموه من المُعلم الأعظم صلى الله عليه وسلم بالصحبة المباشرة والنصرة مع الصبر والتجلد في مواطن الجهاد.
عن خالد بن معدان رضي الله عنه أن سيد الموقنين صلى الله عليه وسلم قال: “تعلموا اليقين كما تعلموا القرآن حتى تعرفوه فإني أتعلمه”، فالأمر إذن علم يتعلم، والتعلم فعل يتوقف على وجود شخص المعلم الماهر المتخصص في المادة التي يعلمها، لأنه من المحال على فاقد العلم أن يُعلم، كما يتوقف أيضا على إرادة و رغبة المتعلم أو المتعلمين في الطلب والتحصيل وعلى صبرهم ودأبهم، “حتى تعرفوه” …حتى.
وأهمية تعلم اليقين كأهمية تعلم القرآن، لأن القرآن بلا يقين لا يفيد ولا يثمر سلوكا، بل ينبغي أن يُتعلم الإيمان قبل القرآن كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وإلا فيمكن معرفة حروف القرآن وإتقان قراءته بلا إيمان، قال الله تعالى: كذلك نسلكه في قلوب المجرمين الذين يعلمون بألسنتهم، وقلوبهم منكرة مرتابة.
نسأل الله تعالى أن يعلمنا اليقين و القرآن معا.
قال تعالى: قد بينا الآيات لقوم يوقنون أي بينا العلامات والدلالات الواضحة لمن آمن وصدق واتبع نور الوحي بكليته، والمؤمنون وحدهم هم الذين يعلمون أنها آيات من ربهم فيتعاملون معها بيقين لا يتزعزع، حتى ولو جاءتهم البلايا من كل جانب وجمع لهم الناس فإنهم يظلون ثابتين بل يزدادون إيمانا، وأولئك هم المهتدون، إذ جعل الله لهم بصائر من عنده يتبصرون بها، أنوار من الله يرون بها، هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون [ref]سورة الجاثية، 20[/ref] قال إسماعيل ابن كثير رحمه الله: “أي القرآن للذين يوقنون”، الذين يتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم في كل أمر ولا يخشون الناس في اتباعه، الأمر عندهم أمر الله والحكم حكم الله وهم جند الله، ولا تستخفُّهم دعاوى الفتنة مهما عظُمت، أفحُكم الجاهلية يبغون ومَن أحسن مِن الله حُكما لقوم يوقنون [ref]سورة المائدة،50[/ref] .
أما المنافقون فقد قال فيهم العليم الخبير: إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم. فلا يستجيب لنداء الله ولا يدعن له ولا يطلب حكمه ولا يريده ولا يسعى إلى تنزيله إلا من آمن واتقى وكان على يقين بالله وبالآخرة. قال الحق سبحانه: فلا وربك لا يؤمنون حتى يُحكموك فيما شَجر بينهم الآية، وقال أيضا: إلا لنعلم مَن يتبع الرسول مِمَّن ينقلب على عقِبيه، قال ابن عباس رضي الله عنه: ليميز أهل اليقين من أهل الشك [ref]التمهيد لابن عبد البر ، ج17ص 54[/ref] .
أهل اليقين
قال الله تعالى: الذين يُقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون [ref]سورة النمل،3[/ref] ، فاليقين بالآخرة لا يعني التواكل والكسل والخمول، وترك الدنيا جملة ومقاطعة الناس والفرار إلى العافية والاستقالة، بل يعني المسارعة إلى الخيرات والمبادرة إلى الأعمال الصالحة وهم لها سابقون سابقوا إلى مغفرة من ربكم. وإنما ذُكر اليقين في سياق إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وليس خارجه، ليعلم أنه علم وعمل، فهم وسعي، تربية وتنظيم، ليعلم أنه قيام لله بالحق، هكذا كان الصحابة رضي الله عنهم على يقين من أمرهم و هم شهداء لله بالقسط. قال الإمام الشوكاني في تفسير هذه الآية: ولا يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح) [ref]فتح القدير، ج7[/ref] .
الموقنون لا يرجون غير الله ولا يخافونه إلا هو، لا يحزنون إذا حزن الناس ولا يشوش إيمانهم إذا ارتاب الضعفاء، لأنهم عرفوا الله وكانوا مع الله فكان الله معهم، عرفوا معرفة اليقين أن النصر من الله، وأن وعد الله حق فشمروا لنيل الرضا والرضوان.
وا حسرتاه على المتشككين والمنافقين!، فهم لا يوقنون وحتى إذا ما شاركوا في أعمال الجهاد بنية من النيات -غير وجه الله تعالى- فإنهم يثبطون العزائم وينكصون إلى الخلف ويشمتون في الصادقين ويتقاعسون عن مهمات البناء وأخيرا يزلزَلون ويفشلون وتذهب ريحهم…وخبرهم في الآخرة نقلته آيُ القرآن.
على خلاف أهل الله وخاصته. فقد ذكر ابن إسحاق رحمه الله في قوله تعالى: ثم أنزل عليكم مِن بعد الغم أمنة نعاسا، أنزل الله النعاس أمنة لأهل اليقين فهم نيام لا يخافون والذين أهمتهم أنفسهم أهل النفاق في غاية الخوف والذعر [ref]فتح الباري ج7ص365[/ref] …لهم الأمن من الله.
رجال رفعهم اليقين إلى أئمة الهدى، وقوم حرمهم ضعف اليقين من الأمن ومنعهم من الجهاد.
قال فضيل بن عياض رحمه الله: خمسة من السعادة: اليقين في القلب والورع في الدين والزهد في الدنيا والحياء والعلم) [ref]حلية الأولياء ج10 ص 216[/ref] . أهل اليقين في فرح دائم بالله ، وهم جبال في التوكل، لا يأكلون بدينهم، ولا يطلبون ما في أيدي الناس، يستحيون من الله ويراقبونه بعلم وخشوع وانكسار.
سلام على نُزل الكرام أحبتي***يوفون في البأساء والخوف جاثم توعدهم بالفتك جَمْعٌ مجمع***و قالَـةُ سـوء حولهـم تتعـاظم فزادهم الله اليقين كـرامـة***و باء بما كـادا عـدوٌّ ولائـم [ref]الإحسان، ج 1 ص406[/ref]
“يهدون بأمرنا”
لا يمكن للدعوة الإسلامية أن تستقيم على أمر الله تعالى تربية وبناء، وانتصارا واستمرارا إن شاء الله إلا إذا قادها الربانيون أئمة الهدى الذين يمتلئون يقينا في الله وبالله وبآياته في خلقه، فيُعلِّمون بأمر الله اليقينَ في الله، بهمتهم وحالهم وسيرتهم وعلمهم ومقالهم. قال فيهم جل وعلا: وجعلنا منهم أئمة يهدُون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون [ref]سورة السجدة،24[/ref]
– وجعلنا منهم: جعل الله ، خلق الله ، بعث الله. من البشر، ماذا؟
– أئمة يهدون بأمرنا: أئمة “جمع إمام والإمام هو الذي يؤتم به في خير أو شر” وأريد بذلك في هذا الموضع أنه جعل منهم قادة في الخير يؤتم بهم ويهتدى بهديهم كما حدثنا بِشر قال حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد عن قتادة وجعلنا مِنهم أئِمة قال رؤساء في الخير، وقوله: يهدون بأمرنا يقول تعالى ذكره يهدون أتباعهم وأهل القبول منهم بإذننا لهم بذلك وتقويتنا إياهم عليه.
– لما صبروا: بمعنى لصبرهم عن الدنيا وشهواتها واجتهادهم في طاعتنا والعمل بأمرنا، قال ابن مسعود رضي الله عنه: وجعلنا منهم أئمة يهدون أتباعهم بإذننا إياهم وتقويتنا إياهم على الهداية إذ صبروا على طاعتنا) [ref]تفسير القرطبي (جامع الأحكام) ج 21 ص112[/ref] ، وقال ابن كثير رحمه الله: أي لما كانوا صابرين على أوامر الله وترك زواجره وتصديق رسله وإتباعهم فيما جاءوهم به كان منهم أئمة يهدون إلى الحق بأمر الله ويدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. فالصبر لا يكون إلا على ما يسمعه المؤمن من الأذى والتكذيب والإستهزاء، فإن الله قد وعد الصادقين بالنصر وإعلاء الحجة وإظهار الدعوة، ووَعدُه سبحانه حق لا خُلف فيه) [ref]فتح القدير ج7[/ref]
– وكانوا بآياتنا يوقنون: أي يتقنون العمل بالأسباب توكلا، لكنهم لا يتعلقون إلا برب الأسباب استمدادا واستنصارا. لا يقين لهم إلا به. ولا يستفيد من آيات الله إلا الموقنون، وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ [ref]سورة الذاريات،20[/ref] أنتَ في الأرض مُخلف فتوكل***شمِّر الساقَ لاقتِحامٍ بَلَوْتَــه سُنن الصدق والتقى مَنْهج النُّ***جْح فأيقن بالله إمَّا اتـقيتـَـه فتْحه واليقيـن في بركــات***مغدقات إنْ في الثقاةِ دعَوتَه [ref]الإحسان، ج 1 ص406[/ref] فالدعوة إلى الله إذن من الله تعالى لإمام هادٍ يجمع الله حوله جماعة من المؤمنين والمؤمنات من “أهل القبول”. إمام هدى أو أئمة هدى، “يهدون بأمرنا”. بأمر الله تعالى.
فمن يسمع و يفهم عن الله ليعرف أن اليقين تشرب قلبي من الأئمة الهادين بأمر الله، الصابرين على الأذى الموقنين بوعد الله لعباده الصالحين بالنصر والتمكين في الدنيا، والفلاح والرضا في الآخرة؟
“ولا يستخفنك الذين لا يوقنون”
قال جل وعلا: فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون [ref]سورة الروم،60[/ref] أي فاصبر على “مشاق التكليف وهداية الناس” ولا يستخفن حلمك ورأيك هؤلاء المشركون بالله الذين لا يوقنون، إن وعد الله بنصرك عليهم حق ولا تترك الصبر لمعاندتهم وتجبرهم واستهزائهم وكيدهم، والصبر هنا هو الصبر الإيجابي على الحق، وليس الصبر السلبي على الباطل، الصبر الجميل في تحمل مهمات الجهاد اقتحاما ومدافعة، لا الانتظار والتقاعس والمداهنة والتسويف والتبرير. الصبر جندية ومواجهة وإنَّ جُندنا لهُم الغالبون، والله مع الصابرين. ومن وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما قوله: “فإن استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين فافعل فإن لم تستطع فاصبر فإن في الصبر على ما تكرهه خيراً كثيراً واعلم أن مع الصبر النصر واعلم أن مع الكرب الفرج واعلم أن مع العسر اليسر” [ref]رواه الحاكم في المستدرك ج14 وتفسير البغوي ج2 سورة الأنعام[/ref] .
قال تعالى في قصة طالوت: ولما برزوا لجالوت وجُنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وتبِّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين برزوا للجهاد والموت في سبيل الله، وسألوا الله أن يفرغ عليهم الصبر في الجهاد -لا في القعود- و سألوا النصر والتثبيت في الميدان، وقد خص الله بذلك القوم الذين يوقنون لأنهم أهل التثبت في الأمور والطالبون معرفة حقائق الأشياء على يقين وصحة فأخبر الله جل ثناؤه أنه بين لمن كانت هذه الصفة صفته ما بين من ذلك ليزول شكه ويعلم حقيقة الأمر إذ كان ذلك خبرا من الله جل ثناؤه وخبر الله الخبر الذي لا يعذر سامعه بالشك فيه، وقد يحتمل غيره من الأخبار ما يحتمل من الأسباب العارضة فيه من السهو والغلط والكذب وذلك منفي عن خبر الله عز وجل) [ref]تفسير القرطبي ج 1 ص515[/ref] .
قال الإمام علي كرم الله وجهه: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد)، وقيل: الشكر نصف الإيمان والصبر نصف الإيمان و اليقين الإيمان كله [ref]شعب الإيمان ج 10[/ref] ، وقال ابن تيمية رحمه الله: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدنيا والدين)، ذلك أن سيادة دين الله في الأرض تتطلب صبرا و مصابرة في الأوامر وعلى النواهي و مع النوازل والأقدار ونبلوكم بالشر والخير فتنة، ودوام الصبر يحتاج إلى يقين لا ينفد وقصد لا ينحرف وعزم لا ينتكس.
كاد قلبي يطير
وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون [ref]سورة الجاثية، 4[/ref] أي في خلق كل منكم من نطفة ثم علقة ثم مضغة مخلقة وغير مخلقة إلى أن شب وصار إنسانا يقول أنا.. أنا..أنا الذي…أنا هو.. و خلق ما في السماء من أجرام وكواكب ومجرات…وما في السماوات وما في الأرض من دابة أي ما يدب عليها من الناس والأنعام وما لا نعلم آيات لقوم يوقنون وفي اختلاف الليل والنهار ذهابهما ومجيئهما وما أنزل الله من السماء من رزق (ماء الوحي وماء الغيث) فأحيى به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح تقليبها مرة جنوبا ومرة شمالا وباردة وحارة آيات لقوم يعقلون فيوقنون، وهي آيات الله الدالة على وحدانيته وقدرته وفضله وهي حججه على خلقه. قال جل ذكره: قد بيَّنا الآيات لقومٍ يوقنون [ref]سورة البقرة،118[/ref] ، آيات القرآن الكريم وآيات الكون العظيم.
روى الإمام البخاري رحمه الله من طريق سفيان قال حدثوني عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: “سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب والطور فلما بلغ هذه الآية “أم خُلقوا من غير شيء أم هُم الخالقون أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون [ref]سورة الطور،36[/ref] ” كاد قلبي يطير” [ref]تنوير الحوالك ج 1 للسيوطي ص76[/ref] .
ما قال اقتنع عقلي ولا جحظت عيناي، وإنما الأمر قلب في قلب. ثم للعقل طوره وللحس…
“هلك المرتابون”
كان معاد بن جبل رضي الله عنه يقول في خطبته: “هلك المرتابون”، أي خاب وخسر الذين لا يوقنون، الخراصون، قال قتادة: هم أهل الغرة والظنون، خفاف العقول الذين يستخف بهم ويسقطون صرعى للشيطان ويبيعون دينهم بأبخس الأثمان، يبيعون الدين بالتين كما قال سيدي عبد القادر الجيلاني. قال الله تعالى: فاستخف قومَه فأطاعوه إنهم كانوا قومًا فاسقين [ref]سورة الزخرف، 54[/ref] ، حملهم ارتيابهم على اتباع الطاغوت والخوف من صنيعه (مِن الظلم والبغي). يخبطون في ظلمات الشك في وعد الله ووعيده، لا يقين لهم ولا يؤمنون إلا بما رأته أبصارهم، قال القوم الفاسقون لسيدنا موسى صلى الله عليه وسلم: أرنا الله جهرة!، فهم لا يؤمنون بالغيب، بل يتشككون ويرتابون، ويتبعون أهواءهم بغير علم ولا هدى، ومثلهم قالوا لسيدنا نوح عليه السلام: فاتِنا بما تعدُنا إن كنتَ مِن الصادقين، قال: إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمُعجزين، وهم الذين حذر الله منهم نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: فاحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك أي اثبت على ما أنت عليه من الحق الذي لا مرية فيه، واحترز من العناصر المريضة الشاكة والقابلة للتشكيك أن تتسرب إلى صف المؤمنين فتنقل إليهم عدوى الوهْن.
عدم اليقين مرض في القلب، وضعف اليقين من استيلاء الغفلة على القلب فتمنع ولوج النور فيه. وإيمان العبد على قدر يقينه ومن ثم كان الأنبياء أوفر حظا في اليقين) [ref]فيض القدير، ج1، ص215[/ref] . وإن من ضعف اليقين إرضاء الناس بسخط الله تعالى، أو حمدهم على عطائه سبحانه، والغفلة عن أن عطاء الله لا يجره حرص حريص ولا يرده كره كاره، و لولا ضعف الإيمان واليقين لما خشي الناسُ الناسَ في الله وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ [ref]سورة الأحزاب،37[/ref] . و من قوي يقينه علم أن الله تعالى هو الوهاب الكريم النافع الضار وأنه لا معول إلا على رضاه وليس لأحد غيره من الأمر شيء، فلا يهاب أحدا ولا يخشاه.عرف فقصد وطلب فوجد.
الموقنون لا يُخذلون، لأنهم لا يرجون غير الله ولا يريدون إلا وجهه ولا يرهبون سواه.
سلوا الله اليقين
خَطب الصديق رضي الله عنه فذكر النبي صلى الله عليه وسلم فبكى ثم قال : يعني النبي صلى الله عليه وسلم: “عليكم بالصدق فإنه يهدي إلى البِر وهما في الجنة وإياكم والكذب فإنه يهدي إلى الفجور وهما في النار وسلوا الله اليقين والمعافاة فإن الناس لم يعطوا شيئا أفضل من المعافاة أو قال: العافية ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تقاطعوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً” [ref]شعب الإيمان، ج11[/ref] ، لا عافية في الدين مع التحاسد والتباغض والتقاطع والتدابر، وهي موانع الأخوة والتحاب في الله، والتعاون والتطاوع لنصرة دين الله. فإذا حضرت الكراهية بين المسلمين غابت المحبة وإذا غابت المحبة غاب الإيمان وإذا غاب الإيمان…. ضاع الإحسان والإيقان! قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: وجدنا الكرم في التقوى، والغنى في اليقين، والشرف في التواضع).
وأخيرا ندعو بدعاء جامع كان يدعو به من جاد بكل ما يملك ثمنا ليقينه (سيدنا أبو بكر رضي الله عنه): اللهم هب لنا إيماناً ويقيناً ومعافاة ونية.
آمين والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه وإخوانه أجمعين.
أضف تعليقك (0 )