مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسينمدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين
مدرسة الإمام المجدد
عبد السلام ياسين

التزكية والدعوة

الاعتكاف إقبال فردي جماعي على الله

3
الاعتكاف إقبال فردي جماعي على الله

الاعتكاف في رمضان سنةٌ نبوية ماضية إلى يوم القيامة، حيث يواصل المعتكِف عكوفه في المسجد أو في غيره من الأمكنة الطاهرة إذا تعذر، زمنا محددا، ويكون في الغالب عشرة أيام بلياليها. ويبقى الاعتكاف في المسجد أولى وأفضل لقدسية المكان ولإقامة الصلوات والجُمع فيه، خلال شهر رمضان أو في غيره من الشهور، غير أنه في رمضان أفضل لفضل الشهر الكريم، وخاصة العشر الأواخر منه، لخصوصيتها وفضلها، حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف كما اعتكف أصحابه وأزواجه والتابعون ومن تبعهم بإحسان إلى اليوم، ففي الحديث “كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ”[1]، والصالحون والصالحات من أمته.

ومن خلال قول الله تعالى: {أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}(البقرة: 125)، ومن خلال ما رواه سيدنا أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه “كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ، اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا”[2]، تتبين أهمية الاعتكاف في التقرب إلى الله تعالى والانجماع عليه وإلزام النفس بطاعته والتوبة إليه ومحاسبتها على غفلتها وتفريطها وبُعدها.

إن الاعتكاف فرصةٌ لتجديد التوبة واليقظة وتوطين النفوس على العبادة ليلا ونهارا، صياما وقياما وتلاوة للقرآن الكريم وحفظا له وتدبرا في آياته، وذكرا كثيرا، ودعاء وتبتلا واستغفارا وصلاة على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإقبالا متواصلا على الله بالفرض والنفل، بنيّة الاتباع والتطهر والتماس الفضل والأجر، والتعرض لنفحات الله في الأوقات المباركات، والاستعداد للقاء الله تعالى، فــ”َمَنِ اعْتَكَفَ يَوْمًا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ تَعَالَى جَعَلَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ ثَلَاثَ خَنَادِقَ أَبَعْدَ مَا بَيْنَ الْخَافِقَيْنِ”[3]. هذا فضل يوم في سبيل الله فكيف باعتكاف أيام، وأيام رمضان ولياليه، وفيه ليلة خير من ألف شهر، وكيف مع يكون مع جماعة من المؤمنين يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم؟ 

الاعتكاف إذن، مناسبةٌ نادرة في حياة المسلم، ليفر من نفسه إلى ربه، ويخرج من سجن عادته إلى مُديدةٍ يتفرغ فيها للإقبال بكُليته على الله تعالى، وليُحاسب نفسه على تسويفها وتقصيرها، ولينال فضل الصوامين القوامين بآيات الله، ويحوز فضل الإقبال الجماعي على الله؛ مع المعتكفين المرابطين، والذاكرين المتحابين في الله، المتصافين المتباذلين، المجتمعين على كتابه وسنة نبيه ليلهم ونهارهم. 

وأنعم به من فضلٍ وأجرٍ أن يجتمع المؤمنون في بيتٍ من بيوت الله ليذكروا الله كثيرا ويتلون كتابه كثيرا، ويتعارضونه بينهم ويتدراسونه، ويُحرض بعضهم بعضا على مجاهدة أنفسهم وحفظ كتاب ربهم ودوام الإقبال عليه، فترى النفس من غيرها إقبالا فتتخفف من كسلها وتُقْبل، وترى في غيرها بشاشة فتتخلص من عبوستها وتتبشبش، وترى من غيرها تواضعا وسابقة فتتحفز وتشمر. وهُمُ القوم لا يشقى بهم جليسهم. فحريٌّ بالمؤمن أن ينتهزها فرصة ليعمق النظر في نفسه يسائلها بجدية وحزم عن حقيقة إيمانها وعن صدق اتباعها وعن التهمم بمصيرها بين يدي ربها.

الاعتكاف انتباهٌ في الطريق إلى أن العمر يتصرَّم بسرعة، وأن أشغال الدنيا لا تنتهي، وأن الموت قد يباغتنا في أية لحظة، فالبِدار البِدار إلى النفس وتمحيص ادعائها الصَّلاح لمعرفتها كما هي في حقيقتها، لا كما في دعواها، ومجاهدتها بين الأنفس لإيقاظها قبل الرحيل إلى الدار الآخرة، وتذكيرها بما تقتضيه الرحلة من صدق في التوبة وتشمير لتجديد الإيمان وتحسين الأخلاق وعروج في مدارج الإيمان والإحسان، مع الصادقين. حتى يكون الاعتكاف قطعا مع حياة الغفلة والتسويف وبداية لحياة إيمانية جديدة ومتجددة. فضلا من الله وتكرما.

الاعتكاف بدايةُ صفحة جديدة في الاستهداء، عساها تكون تحولا قلبيا حقيقيا نحو الثبات في زمن العبودية والذكر والتقرب إلى الله تعالى بالفرض والنَّفل، وتطهير القلب وتهذيب الأخلاق والسمو بالروح، والتهيئ لاستقبال ما بعد رمضان وما بعد الدنيا كلها. يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه. 

والحمد لله رب العالمين.


[1]– أخرجه البخاري كتاب الاعتكاف، باب الاعتكاف في العشر الأواخر والاعتكاف في المساجد كلها، رقم: 2026

[2] – أخرجه البخاري، كتاب الاعتكاف، باب الاعتكاف في العشر الأوسط من رمضان، رقم: 2044

[3]– أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب من لم يدع قول الزور، والعمل به في الصوم، رقم: 1903

أضف تعليقك (3 )



















يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لضمان حصولك على أفضل تجربة ممكنة. تعرف على المزيد