مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسينمدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين
مدرسة الإمام المجدد
عبد السلام ياسين

مقالات في سيرة الإمام

حصادُ السِّنين …في التجربة السِّجنية للإمام -1-

1
حصادُ السِّنين …في التجربة السِّجنية للإمام -1-

حصادُ السِّنين …في التجربة السِّجنية للإمام -1-

مقدمة 

يظن بعض الناس أن التجارب السجنية للعلماء والمفكرين والفلاسفة، تشكل استثناء في حياتهم، غير أن الناظر فيها سرعان ما ينتبه إلى أهميتها القصوى في إمعان النظر في مجملات وتفاصيل المشاريع الفكرية والمجتمعية التي يؤمنون بها، مَن كان منهم صاحب فكرة ومشروع. ورغم ما تذكره كتب التاريخ ومؤلفات “أدب السجون” من تنكيل بالسجناء وترهيب وتعذيب لا يطاق، وحشرهم فرادى في زنازين تحت الأرض، أو في أعماق الآبار، أو في فيافي مقفرة بلا كرامة، إلا أن رهبة السجن لا تزيد أصحاب العزائم القوية إلا صلابة وثباتا، بل بذلك الابتلاء القاسي تقاس الرجولة ويُختبر الصدق، ويحدث أن تنقلب المحن منحا، والأمثلة في الموضوع كثيرة، ذكرتُ بعضها باختصار في كتاب “رسالة العلماء في الإسلام بين شرط الواجب وفقه الواقع”،[ref]- الفراك، أحمد. رسالة العلماء في الإسلام بين شرط الواقع وفقه الواجب، مطبعة جودة، الرباط، ط1، 2014م[/ref] ونذكر منها في هذه الظروف التي دخل فيها الناس إلى سجن بيوتهم بسبب الحجر الصحي من أجل مقاومة جائحة فيروس “كوفيد 19″، تجربة السجن في حياة عالم من علماء المغرب المعاصرين، آمن بفكرة وتحقق بمقتضاها وصدع بها غير عابئ بمن صدقه أو كذبه، ولا ملتفت لمن خوَّفه أو استخرفه، وتحمل تبعاتها في غير وجل ولا اعوجاج، ومضى في طريقه قاصدا غير متردد، وكتب الله له القبول بين خلق كثير، وداع صيته في العالمين، إنه الأستاذ والمربي والمفكر الإسلامي الكبير عبد السلام ياسين رحمه الله (1928-2012م). وذلك من خلال ما تيسر لنا التوفر عليه من مصادر ومراجع في مثل هذه الظروف، ولعل القارئ سيجد ثغرات لم تملأ وأسئلة لم يجب عنها، للسبب نفسه.

 ويفرض الموضوع تقسيمه إلى ثلاثة أجزاء انسجاما مع مراحل السجن الثلاث التي تعرض لها الإمام.

مرحلة (1974-1978) في سجن المجانين بمراكش

مرحلة (1983-1985) في سجن لعلو بالرباط

مرحلة (1989-2000) في سجن الحصار بسلا

الجزء الأول: (1974-1978) من النصيحة إلى مشفى المجانين!

للعلماء في تاريخ المسلمين قصة طويلة مع الاضطهاد من طرف السلاطين، وخاصة العلماء الذين عبروا بوضوح عن رفضهم للظلم واستغنائهم عن أعطيات الملوك. فقد عضَّ الحكام كما هو معلوم على السلطة بالوراثة والسيف، وأعرضوا عن الشورى وإرادة الأمة، بل استكبروا وأصروا على قطع دابر المعارضة لترويض الأمة وتدجينها، حتى أضحى الاعتراض على رأي الحاكم خروجا عن الدين يستحق صاحبه القتل.

ويحتفظ التاريخ بنماذج تستعصي على العد، أذكر منها محنة الإمام السرخسي، ومحنة الإمام اليوسي، ومحنة الإمام النورسي، ومثلها (المحنة) وقع مع الإمام عبد السلام ياسين بن محمد بن سلام، لما بعث رسالته التاريخية الشهيرة “الإسلام أو الطوفان” [ref]- ياسين، عبد السلام. الإسلام أو الطوفان، د. مطبعة، سلا، ط2، 2000م.[/ref] إلى ملك المغرب الراحل الحسن الثاني (1929-1999)، مُذكراً بمسؤولية الحاكم أمام ربِّه وأمام شعبه، وناصحاً له بإبعاد بطانة السوء عن التسلط على رقاب الأمة، وإرجاع أمانة الحكم إلى موضعها الشرعي، معتبرا أن النداءات الحماسية الموسمية وادعاء القوة الحربية وثرثرة أنصاف المثقفين وأحلام القيادة الجماعية، لا تكفي لإنجاز إقلاع صادق يُخرج الأمة من وهدتها، ما لم تُشرك القيادة القادرة بحدسها وروحانيتها وحكمتها المجتمعَ بقُواه الحية في عملية تحولٍّ حقيقية تلامس جوهر الحياة السياسية والاقتصادية، فـ”المثاليون جدا” أو الحالمون بواقع بديل، يكونون كذلك ليس بالغاية التي يسعون إليها، وإنما بعدم إدراكهم للخطوات الموصلة إلى تلك الغاية”. [ref]Georg, Lukács. “History and Class Consciousness”, The Merlin press ltd 1971, p295-296[/ref]

أثارت رسالة الإسلام أو الطوفان[ref]- انتهى من كتابتها ليلة 17 رجب 1394/ 6 غشت 1974م. [/ref]كما يؤكد المؤرخ زكي مبارك “انتباه كل المهتمين بالشأن الثقافي وكذا السياسي بالمغرب. وكان الجميع ينتظر رد فعل ملك هو في عنفوان سلطته، على هذه الرسالة القوية المباشرة، وما تحمله من أفكار مجدِّدة”،[ref]- زكي، مبارك، “الإمام ياسين مدرسة جديدة في الكتابة التاريخية”، منشور يوم 5 مارس 2019، بموقع (yassine.net)، وزرته يوم 20 أبريل 2020م.[/ref] فهي تشكل نداء قويا وواضحا من عالم رباني شجاع، وخبير عارف بالواقع وما يجري فيه، إلى ملك من أعتى ملوك العرب في القرن العشرين، يدعوه إلى التوبة ويرجو أن يفتح الله بصيرته للحق فيقود التغيير المرجو،[ref]- انظر: ياسين، عبد السلام. الإسلام أو الطوفان، مرجع سابق، ص 160-166[/ref] وفي ذلك يقول محمد العيادي: “إن توبة الحاكم تشكل عند ياسين إحدى الطرق الممكنة لإقامة الدولة الإسلامية، فهو يعتبر أن أمراض المجتمع متأتية من القمة في مستوى القيادة السياسية والروحية؛ لأنها هي المسؤولة عن قيادة الأمة وتربيتها وإصلاحها، وهو خلافا لسيد قطب الذي يعتبر مجتمعات المسلمين المعاصرة “مجتمعات جاهلية” يفرق بين الإسلام الموروث الذي تؤمن به الطبقات الشعبية وبين “الإسلام” الذي تمارسه النظم الحاكمة”، والذي يعتبره مجرد نفاق ومظاهر كاذبة”.[ref]-  العيادي، محمد. دراسات في المجتمع والتاريخ والدين، مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود، الدار البيضاء، ط1، 2014م، ص 205[/ref]

فما هي المضامين العامة للرسالة؟

في ماهية الرسالة/النصيحة

جاءت الرسالة[ref]- تتكون الرسالة في نسختها الأولى (سنة 1974م) من 114صفحة، وفي طبعتها الثانية (سنة 2000) من 174 صفحة. [/ref]مُتوِّجة لمرحلة التحول من “الإسلام الصوفي” الفردي الذي عاشه الإمام في حضن الزاوية البودشيشية إلى فضاء “الإسلام المجتمعي”، وخاصة أنها كُتبت بعد الانتهاء من نشر كتابين كبيرين هما “الإسلام بين الدعوة والدولة” (1972) و”الإسلام غدا” (1973)، والرسالة في أصلها لم تخرج عن تقليد علمي جرى به العمل في تاريخ المسلمين، حيث دأب كبار العلماء على تحرير رسائل نُصح يُقوِّمون بها شرعياً سلطة الحكام وتصرفهم في أمانة الحكم، وخاصة إذا كانوا ممن مالوا إلى الطغيان والفساد، ينصحونهم بصدقٍ وأمانةٍ وشجاعة، عملا بفريضة النصيحة، كما جاءت في الحديث النبوي، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: “الدين النصيحة. قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم”،[ref]- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، رقم 55 [/ref]والنصيحة لله بالإيمان به وطاعته، ولرسوله باتباعه ومحبته، وللحكام بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وللعامة بدعوتهم إلى الخير وتربيتهم وتعليمهم. غير أن نصيحة الحكام في تاريخ المسلمين كانت تُكلِّف العلماء الناصحين حياتهم نظرا لما آلت إليه ظروف الأمة من تسيُّد للحكام وتهميش للعلماء واستضعاف للعامة. 

وأداء لهذه المهمة توجَّه الإمام بالنصيحة إلى الملك وهو مَن هو في عُلوه وتسيده، وحوله حاشية فاسدة من بطانة السوء (وزراء وعلماء وعملاء وخبراء وضباط وفنانين…) تُزين له سوء عمله، وتربت على كتفه، وترفعه حد التأله! والشعب خائف يترقب! 

أما عن سياق التأليف والإرسال والاستقبال، فقد جايل الإمام فترة الاحتلال الفرنسي وخبَر الإدارة المغربية عن احتكاك وتجربة ومسؤولية، واطلع على دواليب الفساد الإداري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يعشش في إدارات السلطة، وغاظه تمادي الحكام، وسكوت العلماء، وانزواء الصوفية، وفتنة الصراع على الحكم، وبعد الاستخارة والتضرع إلى الله قام بكتابة النصيحة لعلها تنبه رأس الدولة إلى حقيقة ما هو عليه وليرى الواقع كما هو دون تزوير، ويتحمل مسؤوليته أمام الله وأمام الشعب. وسنعود فيما بعد إلى مسألة السياق.

في مقدمة الرسالة عرَّف الإمامُ بنفسه بأنه إدريسيٌّ ابن فلاحٍ بربري، عاش كأغلب المغاربة في القلة والحرمان بعيدا عن السلطان، عمل أستاذا ومديرا ومفتشا وخبيرا في التربية والتعليم، ثم حصلت له يقظة قلبية أنهضته لطلب معرفة الله فشرع يبحث ويستقصي حتى دُلَّ على شيخ صوفي فصحبه صحبة محبة وبذل إلى حين وفاته، ثم هاله فيما بعد وضع الأمة وسؤال النهوض والقيام من قعود، فتوجه إلى المسؤول الأول في البلاد ناصحا ومقترحا، وقد صرح رحمه الله في برنامج “مراجعات” بقناة الحوار اللندنية بأن “رسالة الإسلام أو الطوفان هي تنبيهٌ لغافلين في غيابات جُبِّ الغفلة عن الله عز وجل وسيف الظلم المصلت على رقاب المسلمين، فكانت هذه بداية واضحة. إننا لا نريد إسلاماَ ودعوةً مائتة هينة لينةً تُربِّت على أكتاف الحاكمين وتقول لهم نِعمَ ما تفعلون أتموا عملكم وأتموا ذبح هذه الأمة. الإسلام أو الطوفان هو دعوة إلى كل حاكمٍ وإلى كل ذي سلطةٍ، نقول له إما أن ترجع إلى دين الله عز وجل وإلا فإنك ستُجرف كما يجرف خشاش الأرض، وكما تُجرف الأمور التي لا قيمة لها عند الله ولا وزن”.م[ref]قتطف من شريط مرئي بعنوان “الإمام عبد السلام ياسين يشرح معنى الاسلام أو الطوفان”، منشور يوم 8 يناير 2013، على الرابط (https://www.youtube.com/watch?v=9LvnplUY3ec)، وزرته يوم 30 أبريل 2020م.[/ref]

مشروعية الحكم ومسؤوليته

من خلال مفردات العنوان نجد أن الرسالة (الإسلام أو الطوفان) تحمل دعوى تخييرية للملك؛ إما الإسلام دعوةً ودولةً، وفي ذلك يتحقق الصُّلح مع الله ومع مرجعية الأمة وبداية تعبئة جديدة لمغرب جديد، وإما الإعراض عن ذلك والتمادي في الانحراف إلى حين حصول الطوفان؛ وهو حدث انهيار البنيان المغشوش، وانقلاع جذور الطغيان الهشة، يومئذٍ تندك القلاع الحصينة والحصون المنيعة، فـ”الطوفان حتمية تاريخية، الطوفان سنةُ الله تجرف الاستكبارَ عندما يعتدي الاستكبار ويتعدّى وتأخذه العزة بالإثم”.[ref]- ياسين عبد السلام، الشورى والديمقراطية، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، ط1، 1996م، ص: 220.[/ref]

وقد ميز المرسِل في الرسالة بين صنفين من الحكام في التاريخ: حكام صالحون وحكام فاسدون، وذكر نماذج من كل فريق، فـــ”من الأمراء على مر العصور صالحون متهجدون عابدون ذاكرون” أمثال عمر بن عبد العزيز ويوسف بن تاشفين وصلاح الدين الأيوبي… ومنهم غير ذلك؛ فاسدون مفسدون وما أكثرهم في ماضينا وحاضرنا. وإن كانت الرسالة موجهة إلى الملك فهي تقصد كل حاكمٍ ظالمٍ، تدعوه إلى التوبة، ورد المظالم إلى أهلها، وإبعاد بطانة السوء، وإرجاع أمر الأمة إليها، وإن كان الحسن الثاني هو المخاطَب في الرسالة، فلأنه هو المسؤول عن تردي الأوضاع التي يعيشها المغرب في اللحظة التي انطلقت فيها كثير من الدول الشبيهة (إسبانيا-كوريا…) نحو التحرر السياسي والتنمية الاقتصادية والتفوق التكنولوجي والعسكري، فالكاتب يستحضر أسباب الفتنة التي تعيشها الأقطار العربية ويحاول اقتراح معالجتها من جذورها.

ساءلت الرسالةُ مشروعية الحكم في الإسلام، واعتبرت أن النظام الجبري (نظام حكم الفرد المطلق) يفتقر إلى “مشروعية استحقاق”، وإن ادعى لنفسه ذلك، وإن تلقب الحكام فيه بألقاب مشروعة، وتصدروا للفتوى، وقد كان الملك الحسن الثاني يُفتي في مجالس العلماء، وهم حوله صموت. كما انتقد الكاتب شعار (الله، الوطن، الملك) معتبرا أنه شعار شِركي يماثل ثالوث النصارى (الأب والإبن وروح القدس)، وانتقد أيضا أعياد الملك (عيد العرش، عيد الشباب..) التي تُصرف فيها الملايير في اللهو والعبث والمجون، لتجميل قُبح النظام، بينما الشَّعب مُفقَّر مجوَّع مهضوم الحقوق. وأمام هذا الفساد في رأس هرم السلطة وما حولها من فئةٍ مترفةٍ، دعا الإمامُ الملكَ إلى التوبة ليقتدي به الشعب المسلم، والكف عن التغني بأمجاد الأسلاف وبناء القصور الفخمة والنفخ في الألقاب، قائلا: “وباء هذه الأمة وباء في الرأس لا تصلح معه الأمة إلا بصلاح الرأس وهو الملك”.[ref]- ياسين، عبد السلام. الإسلام أو الطوفان، مرجع سابق، ص 53.[/ref]

رسالة إلى العلماء

خاطبت الرسالة أيضا العلماء، لمكانتهم الاعتبارية في الدين والمجتمع أولا، لأن صلاح الأمة لا يتمُّ إلا بصلاح أمرائها وعلمائها، ولأنهم ثانيا من شركاء السلطان وأعوانه، سواء بتزيينهم لأفعاله بالعلم أو بسكوتهم عنها وإقرارها. لذلك ذكَّرتهم الرسالة بالمسؤولية الملقاة على عاتقهم وبالأمانة التي اختصوا بتبليغها وبيانها للناس، إن هم حملوا أمانة العلم على وجهها الشرعي، واتَّحدوا وتزكَّوا وطرحوا كبرياء العلم، وتقدموا الأمة فجمعوا شملها المفرَّق وأعادوا بناء كيانها الممزَّق.

دجَّن الملكُ العلماء (جُلهم لا كلهم)، وروضهم على الطاعة العمياء، حتى ألِفوا شهادة الزور والسكوت عن الحق، بل سوغوا السكوت بنصوص القرآن والحديث وأقوال السلف، وبثوا في الناس تدينا سلبيا مائتا يتعايش مع الباطل والظلم ويزينه، ويرضى بالفساد والمنكر ويسكت عنه، وكأنهم مجرد “شرطة دينية” تنفذ التعليمات! مما نفَّر الشباب من الدين لما رأوا فقهاءه -أغلبهم- قد اتخذوه أحبولة للتقرب إلى السلطان، يدورون معه حيث دار، ولا يُهِمهم سوى إرضاءه والحصول على الدينار. فكانوا بحق علماء السلطان، لذلك قال الأستاذ: “فمن هؤلاء الديدان جلساء الملك حين يختلي لسمره، ومنهم وجوه تمثل على مسرح الحياة العامة رجس المنافقين وكذب الدجالين. وفي صحبة هؤلاء يتعلم الملك كيف يتخذ الإسلام ذريعة لكسب ثقة الأمة بعد أن ذابت وذهبت أدراج الرياح. إنهم يزينون للملك شهواته ويتسابقون لتبرير تحركاته، بل يفتون الفتاوى أن الحسن مجدِّد الإسلام وهم والله يَكذبون ويعلمون أنهم يَكذبون”.[ref]- المرجع نفسه، ص 47.[/ref]

ذكر الإمامُ أهلَ العلم بمكانتهم في الإسلام وخطورة موقفهم وخاطبهم بأدب جمٍّ في عبارات مثل: “معشر علمائنا الأمجاد” و”علماؤنا الأجلاء” و”سادتي العلماء، إنكم والله أحبّ الناس إليّ، وأعظمهم في عيني” و”إنكم لمظنة الخير”، “مِلح هذه الأمة وذُخرها” و”الحلقة الضرورية في غد الإسلام الزاهر”، حيث “كان العلماء دائما ولا يزالون في أغلبهم رجالا يخشون الله ويتقونه” … كما توجه إليهم باللوم والعتاب، وقلبه يتحرق على تضييعهم واجب النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتخليهم عن مسؤوليتهم الكبرى في الأمة: التربية على خصال الإيمان وشُعبه، حيث وردت عبارات من قبيل: “ديدان القراء المتزلفون المنافقون” و”معاشر علمائنا الناعسين”؛ ناعسين عن الدعوة إلى الله وحمل هم الأمة المسلمة منشغلين بجمع المال والتنافس في الدنيا أو ناعسين في الزوايا، يقول رحمه الله: “إن داءكم وداء الأمة سماه لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبركم عن تحول الأمة غثاء كغثاء السيل، وحين أخبركم أن مغلوبيتكم وهوانكم وتشتتكم الغثائي وتنافركم سببه حب الحياة وكراهية الموت؛ وهو الوهن كما تعلمون”،[ref]- المرجع نفسه، ص: 110.[/ref] في الوقت الذي تفوقت فيه الإيديولوجية الشيوعية بتعبئتها للشباب ضد الدين والطبقية، وكونت نُخباً فكرية وسياسية واقتصادية وثقافية.

الاقتراح والنموذج

بعد البيان والبلاغ اقترح صاحب الرسالة مدخلا سلميا وجذريا بديلا يجنب البلاد فتن العنف والظلم والاضطراب، وبعيدا عن لغة المؤامرة والثورات الانقلابية العنيفة والنفاق السياسي، يوجد الحل في شجاعة الملك وإعلان توبته، ودعوة الشعب إلى التوبة، بما تعنيه الكلمة من معاني الصدق والوضوح والمصالحة والإصلاح وبداية عهد جديد، ويكون مرجع الإصلاح لا شرقيا ولا غربيا، لا اشتراكيا ولا رأسماليا، وإنما هو منهاج الإسلام في تربية الأمة وتنظيمها وتعبئتها، وقد اختصر المنهاج في ثلاثة شروط نفسية وتربوية وثقافية هي “الصحبة والجماعة وهي خصلة واحدة. ثم الذكر ثم الصدق”،[ref]- المرجع نفسه، ص: 134[/ref] وسبع مبادئ تطبيقية هي” البذل، والعلم، والعمل، والسمت، والتؤدة، والاقتصاد، والجهاد”،[ref]- المرجع نفسه، ص: 134[/ref] أما الملك الحسن فـــ”أمامه أولا عقبة نفسه وهواه وملذاته وعاداته وأفكاره السابقة ونظرته للماضي والمستقبل والحاضر، وولائه لما يسميه عرشه. فمتى اجتاز هذه العقبة ورد المظالم كما فعل عمر بن عبد العزيز حق له أن يقتـرح على الأمة اقتحام العقبة معه، ووجب لذلك أن يجمع حوله جماعة بعقد جديد ومبايعة بدل البيعـة تحت قهر السيف، ومشـروعية جديدة”.[ref]- المرجع نفسه، ص: 133.[/ref]

لكن قلّما يصدق الناس تصورا بلا نموذجٍ مُطبقٍ أو يحمل إمكانات تطبيقه، من خلال ذلك النموذج تقارن وتنتقد وتقترح، وقد كان الأستاذ واعيا بذلك عندما قال: “ولا تزال الإنسانية تنتظر نموذجاً على ضوئه تنتقد النماذج الفاشلة، وعلى ضوء نجاحه تحلل كذب الوعود التي منّت بها الإيديولوجيات المختلفة ثم أخلفت. لا تزال الإنسانية تنتظر نموذجاً حضاريا يعطي الإنسان قيمته كمخلوق مكرم لا كدابة منتجة مستهلكة، ويعطي الإنسان أفق وجوده، ومعنى وجوده وحياته وموته”،[ref]- المرجع نفسه، ص: 146.[/ref] فأي نموذج للمسلمين اليوم وقد ولَّى زمن النبوة والخلافة الراشدة؟

عرضت الرسالة أمام الملك نماذج من رجالات الإسلام الذين تربوا على أيدي عارفين بالله وكانت لهم صحبة وتبتُّل، وقدموا نماذج القادة الصالحين الـمـُصلحين، أمثال: أحمد بن عرفان الشهيد في الهند، والمهدي في السودان وعمر المختار في ليبيا، وحسن البنا في مصر… بيد أن النموذج السلوكي الفريد للحاكم الذي يقترحه صاحب الرسالة -لتوحيد المسلمين وحقن دمائهم وتجنب الفوضى والعنف- هو الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه الذي أحيى الله به الأمة وأصلح أمرها بالعدل والإحسان بعد فسادٍ دام حوالي ستين سنة. ويعتبره “المخرج الشريف الوحيد الممكن”، الذي يؤهل الحاكم ليرقى إلى مصاف الرِّجال إن صدق واقتحم واستجاب. فهل يستجيب الملك لهذا النداء؟

صاحب الرسالة وكأنه يعلم بطبائع صاحبه، ويعلم بأنه يصعب على الملك أن ينقاد لرجل يخاطبه بلغة فيها من الشدة والقوة ما لم يعهده من أحد، بل يُستبعد حتى أن يسمع النصيحة، لكنه مضى في نصحه وكأنه يريد أن يبرئ ذمته ويقدم شهادته، سواء استجاب المنصوح أو أبـَى، سكت أو تكلّم، قبِل النصيحة أو رفضها، فعهده ماض كما مضى من سبقه في التاريخ، وإنه لابد وأن تتخلص الأمة من أنظمة الحكم الجبري وآفاته، لتنهض بواجبها الرسالي بين الأمم.[ref]- انظر: ياسين، عبد السلام. حوار الماضي والمستقبل، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، ط1، 1997م، ص: 257[/ref]

بين الإمام والملك

لم تكن لصاحب الرسالة من خلال مضمونها أية رغبة في منصب أو طلب زلفى، كما يظهر أنه لم يخاطب الملك خطاب حقد وكراهية، بل يظهر من الرسالة أنه يُقدره ويوقره ويحبه لنسَبه الشريف،[ref]- ياسين، عبد السلام. الإسلام أو الطوفان، مرجع سابق، ص 44، 45، 48…[/ref] وينصحه ويستنهضه بصراحة ووضوح لإحداث قطيعة مع مغرب قديم والانتقال إلى مغرب جديد، أو بتعبير قيدوم الصحافيين بالمغرب مصطفى العلوي رحمه الله (1936-2019م) “وضعُ مستقبل سليم لمغرب سليم”،[ref]- العلوي، مصطفى. “قالوا عن الإمام في ذكراه الرابعة” شهادة منشورة في شريط فيديو يحمل نفس العنوان، يوم 23 دجنبر 2016م، في قناة بصائر (yassine.tv). ابتداء من الدقيقة 10:22. [/ref]لكن “المحبة التي لا تنصح والرفق الذي لا يغرك بحلم الله عليك خداع ممقوت”. [ref]- ياسين، عبد السلام. الإسلام أو الطوفان، مرجع سابق، ص: 52.[/ref] أما الملك فقد كان يعرف صدق صاحب الرسالة وصواب قوله، ويوقن بأنه معارض أصيل؛ يحمل مشروعا حقيقيا ولا يريد عنفا ولا فتنة ولا انقلابا، ولا يبيع الدين بالتين، لذلك تفطن لقوة مشروعه، وحاول التخلص منه في المهد بطريقة صامتة. فهو لا يجد أدنى صعوبة في استصدار فتوى من العلماء لتصفيته، بل يفتي نفسه بنفسه، والأنهار كلها تجري من تحته. غير أنه قدر أن تكون عاقبة قتله أخطر من الإبقاء عليه حيا. وجرى قدر الله كما كان مقدرا. ولم يعامله كما عامل كبار ضباط الانقلاب ولا الوزراء الطامعين في الاستحواذ على السلطة (بالإعدام فورا)، بل طلب مقابلته بُعيد اعتقاله، إلا أن صاحبنا أبدى عدم استعداده لتلك المقابلة،[ref]- بسبب رفض مقابلة الملك تم تنقيل الأستاذ إمعانا في العقاب من مشفى الأمراض الصدرية إلى مشفى المجانين، انظر: الجزء الثاني من برنامج مراجعات، حوار المفكر الفلسطيني عزام التميمي مع الإمام، في قناة الحوار بلندن، الحلقة الثانية. وجميع الحلقات منشورة على قناة بصائر[/ref] والتي يعلم الله إلامَ كان يقصد إليه منها الحسن الثاني رحمه الله.[ref]- ياسين، عبد السلام. حوار شامل، حاوره: منير ركراكي وعبد الكريم العلمي، دار العدل والإحسان للنشر، أمريكا (JSPublishing – New Britain, PA, USA)، ط1، 2014م، ص 26[/ref]

أضف تعليقك (1 )



















يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لضمان حصولك على أفضل تجربة ممكنة. تعرف على المزيد