مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسينمدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين
مدرسة الإمام المجدد
عبد السلام ياسين

التزكية والدعوة

يوم النصر

0
يوم النصر

 

سمى الله تعالى في القرآن يوم بدر بيوم الفرقان لما كان فيه من التفريق بين الحق والباطل، وظهور نبينا صلى الله عليه وسلم على المشركين. ﴿وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾[1]، قال سيدنا علي كرم الله وجهه: «يوم بدر، فرق الله فيه بين الحق والباطل».

﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ﴾[2]  كانت بدر يوم سبعة عشر من رمضان، يوم جمعة لثمانية عشر شهراً من الهِجرة، وبدر مَاءٌ هنالك وبه سمى الموضِع. و  «أَذِلَّةٌ » معناها قليلون، واسم الذل في هذا الموضع مستعار، ولم يكونوا في أنفسهم إلاَّ أعِزّة، ولكن نسبتهم إلى عدوّهم وإلى جميع الكفار في أقطار الأرض تقتضي عند التأمل ذِلّتهم وأنهم يُغلبون. ولكن  الله نصرهم ، وقتل في ذلك اليوم صنادِيد المشركين، وعلى ذلك اليوم ابتني الإسلام، وكان أوّل قتال قاتله النبيّ صلى الله عليه وسلم.

قال الإمام القشيري رحمه الله في تفسير هذه الآية : «تذكير ما سَلَفَ من الإنْعَام فتحٌ لباب التملق في اقتضاء أمثاله في المُسْتَأنَف»[3]. إذاً فغزوة بدر ليست حدثا تاريخيا وحسب، بل مدرسة لاستخلاص العبر وبناء المستقبل على منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه، جهادا وتربية وتأسيا، لاقتضاء مثل هذا النصر في المستأنف. فملائكة بدر ما تزال مستعدة متحفزة، إنما تنتظر رجالا مثل رجال بدر، لسان حالهم يقول: على أيدينا نسأل الله عز وجل أن ينزل قدره.

يقول الإمام المجدد رحمه الله ورضي عنه : «وكما أن القرآن نزل حيا على أمة حية تجاهد، وتنتصر، وتبني، وتعاني، وتصبر، ففي ثناياه بذور حياة مستجدة، وجهاد مستجد، ونصر مستجد »[4].

1.الافتقار إلى الله

ولعل أولى العبر من هذا الحدث العظيم هو أن مفتاح النصر الافتقار إلى الله واستغاثته. في صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب قال: لما كان يومِ بَدْر نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا. فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ. ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ «اللَّهُمَّ! أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي. اللَّهُمَّ! آتِ مَا وَعَدْتَنِي. اللَّهُمَّ! إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ» فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، مَادًّا يَدَيْهِ، مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ. فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ. فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ. ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ. وقال: يا نبي الله! كذاك مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ. فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾[5]،  فَأَمَدَّهُ اللَّهُ بِالْمَلَائِكَةِ[6].

2.الشورى

 باعتبارها مبدأً من مبادئ الشريعة وأصلاً من أصول الحكم، وناظمة أساسية لبناء الجماعة المؤمنة، فقد استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في تلك الغزوة أربع مرّات: استشارهم حين الخروج لملاحقة العير، واستشارهم عندما علم بخروج قريشٍ للدفاع عن أموالها، واستشارهم عن أفضل المنازل في بدر، ثم في موضوع الأسرى. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ، قَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: وَاللَّهِ، لَكَأَنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: أَجَلْ، قَالَ: فَقَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ، وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَامْضِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَا أَرَدْتَ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، إِنِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا. إِنَّا لَصُبُرٌ عِنْدَ الْحَرْبِ، صُدْقٌ عِنْدَ اللِّقَاءِ، لَعَلَّ اللَّهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ. فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِقَوْلِ سَعْدٍ. [7]

3.محبة رسول الله ﷺ

العبرة الثالثة : محبة رسول الله وتعلق الصحابة به، دونه رقابهم ومهجهم، فلم تكن طاعتهم له مجرد انضباط عسكري جاف، ولكنها ثمرة حب وولاء صادق. مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قَدح يُعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية  وهو مستنتل من الصف، فطعن في بطنه بالقدح، وقال: “استو يا سواد”، فقال: يا رسول الله! أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل، فأقدني. قال: فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه، وقال: “استقد”، قال: فاعتنقه فَقَبَّل بَطْنه، فقال: “ما حملك على هذا يا سواد؟” قال: يا رسول الله! حَضَر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك: أن يمس جلدي جلدك! فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم[8]. قلوب مُحبة وهمم توَّاقة فصفوف متراصة!

4.ذكر الله والثبات

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[9]. يقول الإمام المجدد رحمه الله ورضي عنه : «يكون ذكر الله أعظم إن كانت دواعي الغفلة وأزمة الموقف أشدَّ. وبهذا يكون الذكر في الجهاد، الذكر عندما يخاف الناس ويزدحمون على مخارج الأمان ومهارب الجبن، أكبر الذكر… نسأل الله القوي العزيز الحنان المنان أن يكون مستقبلُ الذاكرين الله كثيرا في ساحات الجهاد بكل وجوه الجهاد، تأسيا بالأسوة العظمى صلى الله عليه وسلم وبمن معه»[10].

5.الصدق وبذل النفس

 لما دنا المشركون يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض، فقال عمير بن الحمام الأنصاري : يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: نعم، قال: بخ بخ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يحملك على قولك بخ بخ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال فإنك من أهلها، فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، قال فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل[11]. فكان رضي الله عنه أول أنصاري شهيد.

جاء في المنهاج النبوي : «إن لم نرب نفوسنا على الجهاد والسخاء بالمال والنفس، وبذل المال والنفس، فلا حياة. إن لم يكن كل فرد من جند الله مستعدا للموت، أهون ما يكون عليه ذلك، بل أحب ما يكون إليه، ما دام واثقا أنه في سبيل الله، فلا حياة للأمة.» [12]

6.﴿وأعدوا لهم ما استطعتم﴾

 رغم أنهم لم يتجاوزوا الثلاثمائة وأربعة عشر رجلا، فيهم فارسان، فقد بذل رسول الله صلى الله عليه وسلم الوسع في الأخذ بالأسباب ، سيرا على سنن الله الكونية، وهو المؤيد  والموعود بالنصر ، ليعلمنا أن الأخذ بالأسباب عبادة لا تتنافى مع التوكل الدائم على الله تعالى.

«مدد لا يتنـزل على القاعدين بل يخص به الله من قام وشمر وتعب في بذل الجهد، وأعطى الأسباب حقها، وأعد القوة وبذل المال والنفس… فبين طرفي إلغاء الأسباب وإلغاء الغيب من الحساب يقع صواب الإيمان بقدرة الله تعالى المطلقة والاحترام المشروط على المؤمنين لسنته في الكون والتاريخ»[13].

7.الصدق

وعن معنى تجريد القصد لله تعالى، وتخليص النية من رعونات النفس ونوازع الطبع مزايلة للكفار في  قول الله تعالى ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ﴾، يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله:  «في الآية تحريض واقعي على الغضب لله وللمستضعفين. لدى قلة قليلة من المحسنين الوارثين لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان لا يغضب إلا لله القدرة على ضبط النفس كي لا تشوب في أنفسهم بواعث الأرض واستفزازاتها بواعث السماء. أما جماعة المؤمنين وسوادهم وأنصارهم فالغضب المطلوب إليهم غضب مزجِيٌّ، غضب في سبيل الله في القلوب النفيسة المعدن، وغضب في سبيل المستضعفين وهو كرم ومروءة وخلق»[14].

«في مستوى عال من الإحسان والإيمان مؤمنون يعطون الله الثمن، ثمن الجنة ورضاه، وفي مستوى آخر مستضعفون ينتصرون، والأمر واحد. والموتة واحدة. والصف واحد. وفي الحوافز تفاوت»[15].

وختاما فأهل بدر هم بدور في سماء أمة الإسلام، أطافوا بشمسها المصطفى صلى الله عليه وسلم وأحبوه، فدوه بمهجهم فصنعوا لهذه الأمة تاريخا، وضربوا مثالا ليفتحوا بابا للتملق في اقتضاء أمثال نصرهم وعزتهم في المُسْتَأنَف.

كفاهم شرفا وعزا وسام : «لَعَلَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ اطَّلَعَ علَى أهْلِ بَدْرٍ فَقالَ: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» رضي الله عنهم، وعن سائر الصحب الكرام، وصلى الله علي سيدنا محمد وآله وسلم.  والحمد لله رب العالمين.

 

[1]  سورة الأنفال، الآية 41.
[2]  سورة آل عمران، الآية 66.
[3]  لطائف الإشارات، الإمام القشيري، الجزء 1، ص 274، الهيئة العامة المصرية للكتاب، الطبعة الثالثة.
[4]  رجال القومة والإصلاح، الإمام عبد السلام ياسين، ص 25، دار لبنان، الطبعة الأولى، بيروت 2018.
[5]  سورة الأنفال، الآية 9.
[6]  صحيح الإمام مسلم، كتاب الجهاد، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، وإباحة الغنائم، رقم الحديث 1763.
[7]  رواه الطبري في تفسيره (11/41)، قال ابن كثير في «البداية والنهاية» (3/261): له شواهد.
[8]  معرفة الصحابة، أبو نعيم الأصبهاني، الجزء 3، ص 404 ، دار الوطن للنشر، الرياض، 1998.
[9]  سورة الأنفال، الآية 45.
[10]  الإحسان، الإمام عبد السلام ياسين، الجزء 1، ص 222 ، الطبعة الثانية، دار لبنان للنشر، بيروت، 1998.
[11]  صحيح مسلم، كتاب الإمارة،  باب ثبوت الجنة للشهيد، رقم الحديث 1901.
[12]  المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، الإمام عبد السلام ياسين، ص 383 ، الطبعة الثانية، الشركة العربية للنشر والتوزيع، القاهرة، 1989.
[13]  سنة الله، الإمام عبد السلام ياسين، ص 9 ، الطبعة الثانية، مطبعة الخليج العربي، تطوان، 2005.
[14]  سنة الله، الإمام عبد السلام ياسين، ص 304 ، الطبعة الثانية، مطبعة الخليج العربي، تطوان، 2005.
[15]  المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، الإمام عبد السلام ياسين، ص 374 ، الطبعة الثانية، الشركة العربية للنشر والتوزيع، القاهرة، 1989.

أضف تعليقك (0 )



















يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لضمان حصولك على أفضل تجربة ممكنة. تعرف على المزيد