مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسينمدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين
مدرسة الإمام المجدد
عبد السلام ياسين

التزكية والدعوة

محبة النبي الكريم ﷺ

0
محبة النبي الكريم ﷺ

أرسل الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وجعله خاتما فجمع فيه الهدى وجمع أسباب الكمال لمن أحبه وأطاعه، فمن فني في محبته فقد ائتمر بأمر الله وتعرض لرحمة الله ووفي له الكيل.

أليس الله قد قرن محبته بمحبته وضمن المغفرة لمن اتبعه وأطاعه حيث قال: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾.

وصفه الوصّافون في السير ونقلوا رحمهم الله تفاصيل حياته، لكن غاية ما فعلوه تقريب وتشبيه، عسى أن تحمل السطور نسائم من ذلك الجناب الشريف. أما من خلع العذار في محبته صلى الله عليه وسلم فلا يكفيه وصف، وإن شبه بالشمس أو القمر.

غير أن الولوع به وبصحبه والتعلق بدراسة شمائله وسيرته وسير أصحابه شوقا ومحبةً تشوفٌ لتشرُّب الإيمان من معينه الأصلي بوصلة مباشرة به صلى الله عليه وآله، لا تحجب الأجيال والأحداث المتلاحقة من بعده عن مصدر الإشعاع والهداية.

لنستمع إلى الإمام علي ربيب النبوة كرم الله وجهه يصف رسول الله: “أفضت كرامة الله سبحانه إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فأخرجه من أفضل المعادن منبتا، وأعز الأَرومات مَغْرسا. من الشجرة التي صَدعَ منها أنبياءَه، وانتخب منها أمناءه. عترتُه خير العِتَرِ، وأسرته خير الأسر. وشجرته خير الشجر. نبتت في كرم، وبسقت في كرم، (…) فهو إمام من اتقى، وبصيرة من اهتدى. سراج لمع ضوؤه، وشهاب سطع نوره، وزَنْدٌ برق لمعه. سيرته القصد، وسنته الرشد، وكلامه الفصل، وحُكمه العدل بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وآله شهيدا وبشيرا ونذيرا. خيرَ البرية طفلا، وأنجبَها كهلا. أطهرَ المطهرين شيمة. وأجودَ المستَمْطرِين دِيمَةً أرسله داعيا إلى الحق وشاهدا على الحق. فبلغ رسالات ربه غيْرَ وانٍ ولا مقصر. وجاهد في الله أعداءه غير واهن ولا مُعَذِّرٍ. إمامُ من اتقى، وبصرُ من اهتدى”[1].

هو ذا النبي الخاتم، خاتم بالزمان وخاتم بالكمال، القدوة الخالدة للبشرية. غشِيَتْ أعينٌ لا تستنير بنوره، وخابت وخسرت ذمم فَصَمَتْ ما بينها وبينه! ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾.

لذلك “فإنه بعد كلمة لا إله إلا الله، ينبغي أن يكون بلاغنا مشبعا بالحب لشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، مفعما بالتقدير لمكانته عند الله عز وجل وبالاقتناع بعصمة سنته وقيادته”[2].

أمرنا الله تعالى أمرنا بالتأسي به ورفع مكانته وأوحى في قوله سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ الله فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾

“غير أن تمييزَ الله نبيَّه عن سائر خلقه ليس لرفعه رفعاً يبعده عن أمته، لكنه تمييز تمكينٍ لهيبته في النفوس وتعميقٌ لحبه في القلوب. وكما أن تَعَالِيَ المولى سبحانه وتقدُّسَهُ لا يجعله بعيدا عن عباده، ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾. كذلك رسول الله الذي لا يَصفو حبنا له من أكدار البشرية لو بقي في أعيننا كواحد منا. حبه صلى الله عليه وسلم من حب الله. ومِن حب الله والتعلق الدائم به يفيض الحب على رسوله بالإضافة والتبعية. فمهما توغل حب العبد المصطفى في قلوبنا فسيبقى حبا مضافا. ولا خطر من الشرك كما يتوهم أهل اليُبْسِ والجفوة، عافانا الله”[3].

ورحم الله الإمام الغزالي قال رحمه الله: “إن من أحب غير الله، لا من حيث نسبتُه إلى الله تعالى، فذلك لجهله وقصوره في معرفة الله تعالى. وحب الرسول صلى الله عليه وسلم محمود لأنه عين حب الله تعالى. وكذلك حب العلماء والأتقياء، لأن محبوبَ المحبوب محبوب. ورسول المحبوب محبوب، ومحب المحبوب محبوب. وكل ذلك يرجع إلى حب الأصل، فلا يتجاوزه إلى غيره. فلا محبوب بالحقيقة عند ذوي البصائر إلا الله تعالى. ولا مستحق للمحبة سواه”[4].

لكن قرون العض والجبر والفتن التي توالت حالت بين والأمة والنبع الصافي فقطعت المسلمين عن التلقي من المعين الفياض الذي سقى قلوب الأصحاب والأتباع، وتفرعت الملل والنحل وتكدست الطّروس فطال الأمد وقست القلوب وتردى الإيمان بذبول زهرة الحب النبوي فيها.

روى الإمام البخاري رحمه الله عن عبد الله بن هشام رضي الله عنه قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله! لأنتَ أحبُّ إليّ من كل شيء إلا نفسي! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا! والذي نفسي بيده، حتى أكون أحبَّ إليك من نفسك. فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر!».

هذا تعليم منه صلى الله عليه وسلم لسيدنا عمر وللصحابة وللمؤمنين في كل زمان أن حبه، غير الميل الطبعي، هو فوق سائر العواطف البشرية وارتفاع عن حركة النفس والطبع. ولا إيمان بدون محبته صلى الله عليه وسلم لما ورد من حديث أنس رضي الله عنه المتفق عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين».

وأخرج الطبراني رحمه الله عن عائشة رضي الله عنها قالت: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إنك لأحب إليّ من نفسي، وإنك لأحب لي من ولدي. وإني لأكون في البيت فأذكرك، فما أصبر حتى آتِيَ فأنظر إليك. وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رُفِعْتَ مع النبيئين، وإني إذا دخلت الجنة خشيت ألا أراك. فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئا حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشّهَداءِ وَالصَّالِحِين﴾».

محبة خرقت الطبع المائل لمحبة النفس والولد، وخرقت حجاب الموت، ونفذت إلى الآخرة.

نضّر الله وجه الإمام سيدي عبد السلام ياسين، أجمل ذلك في كلام بديع يترجم عن بلاغ النبوة وبيان القرآن: قال رحمه رحمة واسعة: «مَلَكَ والله ناصيةَ التوفيق من كان الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وذاق حلاوة الإيمان، وأشرف على مشارف الإحسان، ودحض مزاعم الشيطان الذي يزعم أن التفاني في حب الذات المحمدية غلو… ولا حدود للتفاني في محبة الشخص الكريم على الله حتى يكون أحب إلينا من الناس أجمعين ومن أنفسنا»[5].

وقد سأل الصحابة الكرام رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت صلاة المصلين عليك ممن غاب عنك ومن يأتي بعدك ما حالهما عندك؟  فقال أسمع صلاة أهل محبتي وأعرفهم وتُعرض علي صلاة غيرهم عرضاً.

فكيف يطيب لك عيش يا أخي ويهنأ لك بال، وأنت لا تعلم أصلاتك تُسمع ويعرفك صاحبها باسمك؟ أم أنها تعرض عرض صلاة العوام؟

أصغ معي لمستهامٍ بذلك الجناب يصف لواعج قلبه وغرامه، علَّ نسائم من تلك الرحاب تخرق الزمان، فتلامس مني ومنك قلبا خليا يحن فيشتاق ثم ينهض ليحب، فإذا هو ذاق:

سَكَنَ الفُؤادَ فِعِش هَنيئاً يا جَسَد

 
 هَذا النَّعيمُ هُوَ المُقيمُ إِلى الأَبَد

 
أَصبَحتَ في كَنَفِ الحَبيبِ وَمَن يَكُن

 
 جارَ الكَريمِ فَعَيشُهُ العَيشُ الرَّغَد

 
عِش في أَمانِ اللهِ تَحتَ لِوائِهِ

 
 لا خَوفَ في هَذا الجَنابِ وَلا نَكَد

 
لَو أَبصَرَ الشَّيطانُ طَلعَةَ نورِهِ

 
 في وَجهِ آدَمَ كانَ أَوَّلَ مَن سَجَد

 
أَو لَو رَأَى النَّمرودُ نورَ جَمالِهِ

 
 عَبَدَ الجَليلَ مَعَ الخَليلِ وَما عَنَد

 
لَكِنَّ جَمالَ اللهِ جَلَّ فَلا يُرى

 
 إِلاّ بِتَخصيصٍ مِنَ اللهِ الصَّمَد

 

اللهم صل على سيدنا محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على آل سيدنا إبراهيم إنك حميد مجيد.


[1]. نهج البلاغة ج1 ص: 185.

[2]. القرآن والنبوة، ص: 53.

[3]. المصدر نفسه، ص: 54.

[4]. إحياء علوم الدين، ج4، ص: 258.

[5]. الإحسان، ج 1، ص: 177.

أضف تعليقك (0 )



















0
يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لضمان حصولك على أفضل تجربة ممكنة. تعرف على المزيد