مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسينمدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين
مدرسة الإمام المجدد
عبد السلام ياسين

التزكية والدعوة

الأدب مع الله عز وجل

0

الأدب مع الله عز وجل : 

معنى الأدب | 

الأدب لغة هو الدعوة والجمع والتعليم. قال ابن منظور : «الأدب اجتماع خصال الخير في العبد، والأَدَبُ: الظَّرْفُ وحُسْنُ التَّناوُلِ، وسُمِّيَ أَدَباً لأَنه يَأْدِبُ الناسَ إِلى الـمَحامِد، ويَنْهاهم عن المقَابِح. فمن اجتمعت فيه خصال الدعوة إلى محامد الأفعال والأخلاق والنيات، وتحلى بمجامعها، وتعلمها ثم علَّمها فذاك الأديب».

يقول الإمام المجدد رحمه الله ورضي عنه : «الأدب إحسان يلُفُّ سلوك السائر إلى الله عز وجل، المتقرب إليه سبحانه بالفرض والنفل، وبالنية الصادقة الواثقة في أن يُوَفِّيَ له الله تبارك اسمه ما وعد»[1].

ويقول ابن القيم رحمه الله: «الأدب مع الله حسن الصحبة مع الله بإيقاع الحركات الظاهرة والباطنة على مقتضى التعظيم والإجلال والحياء»[2]. ومعناه بالجملة القيام بدين الله والتأدب بآدابه ظاهرا وباطنا. لذلك قال سعيد بن المسيب التابعي الجليل رضي الله عنه: «من لم يعرف ما لله تعالى عليه في نفسه، ولم يتأدّبْ بأمره ونهيه، كان من الأدب في عزلة»[3].

وسئل الحسن البصري رحمه الله عن أنفع الأدب؟ فقال: «التفقه في الدين، والزهد في الدنيا، والمعرفة بما لله عليك».

والأدب يكون على مدارج الدين كلها  إسلاما وإيمانا وإحسانا، يقول الإمام المجدد رضي الله عنه: «الأدب بهذا المعنى هو الدين كله، يشمل آداب القول والفعل والتخلق والنية. يشمل آداب المسلمين والمؤمنين والمحسنين السالكين، كلٌّ على حسب مدرجته وحظه من الله ومن العلم بالله، يشمل الأدب مع الله عز وجل ومع رسوله الكريم ومع الخلق كافة»[4].

قال : «وكلما ارتقى العبد في سلم المعرفة بالله عز وجل كانت تكاليف الأدب وضبط النفس عليه أدقَّ وأرقَّ»[5].

أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم

لذلك كان لأنبياء الله ورسله أعلى المقامات وأخصها بحسب قربهم وتعظيمهم وإجلالهم لخالقهم وحيائهم منه جل جلاله، فكانوا أسوة للخلق، شمسهم وإمامهم سيد الخلق صلوات ربي وسلامه عليهم جميعا.

افتتح الأستاذ القشيري رحمه الله «باب الأدب» من رسالته بقول الله عز وجل عن نبيه وعبده محمد ﷺ في معراجه وقربه من ربه: ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ﴾ فعد ثبات رسول الله ﷺ في ذلك المقام الأقدس وطمأنينته أدبا. وعلق ابن القيم رحمه الله على صنيع الأستاذ فأحسن التعليق. قال: «لم يتجاوز البصر حده فيَطغَى، ولم يمِلْ عن المرئي فيزيغَ. بل اعتدلَ البصرُ نحو المرئي، ما جاوزه ولا مال عنه كما اعتدل القلبُ في الإقبال على الله، والإعراض عما سواه. فإنه أقبل على الله بكليته (…). وهذا غاية الكمال في الأدب مع الله الذي لا يلحقه فيه سواه (…).[6]

ذلك أن من عادة النفوس، إذا أقيمت في مقام عال رفيع أن تتطلع إلى ما هو أعلى منه وفوقه، فسيدنا موسى عليه السلام لما أقيم في مقام التكليم والمناجاة، طلبت نفسه الرؤية، أما نبينا صلى الله عليه وسلم لما أقيم في ذلك المقام، وفّاه حقه، فلم يلتفت بصره ولا قلبه إلى غير ما أقيم فيه البتة، صلى الله عليه وسلم.

أدب الأنبياء عليهم السلام

ويحكي كتاب الله جل وعلا أدب الأنبياء عليهم السلام مع الحق عز وجل للعبرة والتأسي: فهذا  الخليل إبراهيم على نبينا وعليه السلام عندما ذكر الخلق والهداية والرزق نسبهما إلى الله تعالى فقال: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ  وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ﴾[7] ولما ذكر المرض نسبه لنفسه فقال: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾[8]. وهذا من رعاية الأدب مع الله تعالى.

ومنه قول سيدنا أيوب عليه السلام ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾[9] ، فترك نسبة الضر إلى الله تأدبًا معه سبحانه. بل ترك الدعاء بالشفاء، وعرض حاله وأوكل الأمر إلى رحمة الله جل وعلا.

وكذلك قول سيدنا الخضر عليه السلام في السفينة التي خرقها: ﴿فَأَرَدْتُ أَنْ أعِيبَهَا﴾[10]، ولم يقل: “فأراد ربك”؛ حفظًا للأدب مع الله تعالى بعدم نسبة العيب إليه. ولما كان الكلام عن المشيئة قال : ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ﴾[11].

وهذا سيدنا  عيسى عليه السلام في  أدبه مع الله وتوحيده حينما قال له: ﴿أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾[12]، لم يقل: أنا لم أقل ذلك، بل قال: ﴿إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ﴾[13]، وفرق بين الجوابين في حقيقة الأدب، ثم أحال الأمر إلى علمه سبحانه بالسر والعلانية واختصاصه سبحانه بعلم الغيب فقال: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ﴾[14].

وألطف من هذا قول سيدنا موسى عليه السلام ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾[15].

الصحبة مدرسة الأدب

هذه صور من أدب أنبياء الله ورسله مع الله عز وجل، ولنا فيهم وفي نبينا الأسوة الحسنة. نوابهم في الخلق أرباب القلوب أولياء الله في كل زمان، من صحبهم وصدق تعلم منهم الأدب وتشرب، فالتربية سماع وتشبه وتمثل وتشرب. قال الإمام المجدد رحمه الله ورضي عنه : «بأدبك مع المخلوق وشمِّك من روحه تتعلم الأدب مع الخالق سبحانه. وبصبرك في صحبته تتماثل للبروز إلى وجودك الروحي الكامل»[16].

ويحذر ابن القيم رحمه الله من سوء الأدب عند ورود النعم، يقول : «ولهذا كان أرباب البصائر إذا نالوا شيئا من ذلك انحرفوا إلى طَرَفِ الذُّلِّ والانكسار ومطالعة عيوب النفس، واستدعوا حارسَ الخوف، وحافظوا على الرباط بملازمة الثغْر بين القلب وبين النفس، ونظروا إلى أقرب الخلق من الله عز وجل وأكرمِهم عليه وأدْناهم منه وسيلةً وأعظمهم عنده جاها، وقد دخل إلى مكة يوم الفتح وذقَـنُه تمس قربُوسَ سَرْجه انخفاضاً وانكسارا، وتواضعا لربه تعالى في مثل تلك الحال التي عادة النفس البشرية فيها أن يملِكهَا سرورُها، وفرحها بالنصر والظفر والتأييد، ويرفعها إلى عنان السماء»[17].

قال الإمام الجنيد رحمه الله : حسن الأدب في الظاهر عنوان حسن الأدب في الباطن. ومن هذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل: أن يستر عورته، وإن كان خاليا لا يراه أحد، أدبا مع الله، على حسب القرب منه، وتعظيمه وإجلاله، وشدة الحياء منه، ومعرفة وقاره. فستر العورة من الأدب. والوضوء وغسل الجنابة من الأدب. والتطهر من الخبث من الأدب. حتى يقف العبد بين يدي الله طاهرا. ولهذا كانوا يستحبون أن يتجمل الرجل في صلاته للوقوف بين يدي ربه. وكان لبعض السلف حلة بمبلغ عظيم من المال، كان يلبسها وقت الصلاة ويقول: ربي أحق من تجملت له في صلاتي.

أدب أهل اللغة

ونقل ابن حجر في الفتح أن بعض علماء اللغة والنحو، كابن مالك ، وابن هشام ، والطبري ، والآثاري ، والأزهري ، وغيرهم اختاروا مسلكاً في الإعراب، عدلوا فيه عن المشهور من لفظ الإعراب، تأدباً مع الله عز وجل وإجلالًا لكلامه. ومن ذلك قولهم في نحو قوله تعالى : ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾[18] قالوا : خُلِقَ فعل ماض مبنيٌّ لما لم يسمَّ فاعله، بدل  مبنيّ للمجهُول .

وفي نحو قوله : ﴿واتَّقُوا اللهَ﴾، وأستغفر اللهَ، وسألتُ اللهَ ، قالوا : اسم الجلالة منصوبٌ على التعظيم، بدل: مفعول به. وفي نحو قوله : ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾[19] ، (اغفر لي )، قالوا : اهدنا: فعل طلب ودُعَاءٍ، بدل فِعل أمر . ونحو : ﴿ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ ﴾ قالوا : اللام للدعاء، بدل  لام الأمر. ونحو : ﴿لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾[20] ، قالوا : لا: حرف دعاء، بدل  لا الناهية .وقالوا : إنَّ «عسى» من الله تُفيد التحقيق، بدل الترجي .

ومن ذلك أيضا التَّورعُ عن القول في حرفٍ من القرآن إنه حرفٌ زائدٌ، لأنه يسبق إلى الأذهان أنَّ الزائدَ هو الذي لا معنى له، وكلامُه سبحانه مُنزَّهٌ عن ذلك. ثم إنهم منعوا تصغير أسماء الله عز وجل وصفاته الحُسنى .

اللهم جللنا بسترك، واعف عن تقصيرنا بكرم وجهك. وارزقنا الأدب ظاهرا وباطنا بين يديك ومع نبيك وأوليائك وسائر خلقك أنت ولي ذلك والقادر عليه، ولا حول ولا قوة إلا بك. وصلى الله على سيدنا محمد وآله، والحمد لله رب العالمين.

[1]  الإحسان، الإمام عبد السلام ياسين، الجزء الثاني، ص 344، الطبعة الثانية، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، 2018.
[2] مدارج السالكين، ابن قيم الجوزية، الجزء الثالث، ص 143، دار ابن حزم، الطبعة الثانية، بيروت، 2019.
[3]  الرسالة القشيرية، الإمام القشيري، الجزء الثاني، ص 445، دار المعارف، القاهرة.
[4]  الإحسان، الإمام عبد السلام ياسين، الجزء الثاني، ص 344، الطبعة الثانية، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، 2018.
[5]  الإحسان، الإمام عبد السلام ياسين، الجزء الثاني، ص 346، الطبعة الثانية، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، 2018.
[6]  الإحسان، الإمام عبد السلام ياسين، الجزء الثاني، ص 343، الطبعة الثانية، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، 2018. 
[7]  سورة الشعراء، الآية 78.
[8]  سورة الشعراء، الآية 80.
[9]  سورة الأنبياء، الآية 83.
[10]  سورة الكهف، الآية 79.
[11]  سورة الكهف، الآية 82.
[12]  سورة المائدة، الآية 116.
[13]  سورة المائدة، الآية 116.
[14]  سورة المائدة، الآية 117.
[15]  سورة القصص، الآية 24.
[16]  الإحسان، الإمام عبد السلام ياسين، الجزء الأول، ص 201، الطبعة الثانية، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، 2018.
[17] مدارج السالكين، ابن قيم الجوزية، الجزء الثالث، ص 167، دار ابن حزم، الطبعة الثانية، بيروت، 2019.
[18]  سورة الأنبياء، الآية 37.
[19]  سورة الفاتحة، الآية 286.
[20]  سورة البقرة، الآية 6.

أضف تعليقك (0 )



















يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لضمان حصولك على أفضل تجربة ممكنة. تعرف على المزيد