ذكر الله هو الكيمياء الإلهية، والدواء والعلاج التي بها يطهر القلب، وهو مصب الإيمان وملتقى شعبه ومصدر نوره. قال الله تعالى: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾[1]. وما شرعت العبادات إلا لذكر الله، فكل الأعضاء الظاهرة والباطنة منتدبة لذكره عز وجل. ذكر القلب، أعظمها، ثم ذكر اللسان، ثم ذكر الأعضاء. وبذكر الله يتقدس الكيان القلبي للمؤمن، ويكون التقديس أعظم إن كان ذكر الله أدومَ. ويكون ذكر الله أعظم في مواطن الغفلة ومواقف الخوف والاضطرار، لذلك فالذكر في الجهاد عند ملاقاة العدو أكبر الذكر.
يقول الصالحون من هذه الأمة: «من لا ورد له فلا وارد له». الورد هو المداومة في أوقات معينة على أذكار معينة، والوارد هو مزيد الإيمان الذي يقذفه الله عز وجل في قلب الذاكرين الله كثيرا. وللورد، تحديدا ودواما، سند في قول النبي ﷺ فيما رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها: «أحب الأعمال إلى الله أدومها ولو قل».
والإقبال على الذكر والمداومة عليه والإكثار بالتدرج، يقوى إيمان المؤمن، فيصبح ذكر الله غذاء ضروريا، ويصبح اللسان رطبا من ذكر الله عز وجل. وما الأوراد إلا مدرسة تهيئ الذاكر لاستغراق الوقت كله في الذكر، وسند ذلك حديث أمنا عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله تعالى على كل أحيانه، وحديث معاذ رضي الله عنه أنه سأل رسول الله ﷺ قال: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال ﷺ: أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله»[2].
يقول الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله : « وللذكر مَراقٍ، يترقى المريد من ذكر اللسان إلى ذكر القلب واللسان، ومن الوفاء بأوراد محدودة إلى الاستغراق ثم الاستهتار إن وفقه الله. قال ابن عطاء الله رحمه الله في حكمه: «لا تترك الذكر لعدم حضورك مع الله فيه، لأن غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره. فعَسى أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يَقظة، ومن ذكر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود حضور. ومن ذكر مع وجود حضور إلى ذكر مع وجود غيبة عما سوى المذكور. وما ذلك على الله بعزيز»»[3].
ويتجدد الإيمان بذكر الله تعالى باللسان والقلب، خاصة بقول لا إله إلا الله الكلمة الطيبة المطيِّبة. قولها كثيرا. قال رسول الله ﷺ لأصحابه: «جددوا إيمانكم!» قيل: يا رسول الله! وكيف نجدد إيماننا؟ قال: «أكثروا من قول لا إله إلا الله». رواه الإمام أحمد والطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه.
«المطلوبُ قولها، قولا لسانيا والتكلم بها بكل بساطة وفطرية. ففي لفظها المقدس سرّ وكيمياء بهما ينفذ الإيمان إلى القلب. كلمة هي أفضل الذكر وأعلى شعب الإيمان وأرفعُها، لا يزهد في الاستهتار بها إلا محروم»[4]. قال رسول الله ﷺ: «لا إله إلا الله أفضل الذكر، وهي أفضل الحسنات». وقال ﷺ : «أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله». وعن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله! أوصني! قال: «إذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تمحها». قال: قلت: يا رسول الله! أمن الحسنات لا إله إلا الله؟ قال: «هي أفضل الحسنات»[5].
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه بالمداومة على الذكر في كل الأحوال، ويعلمهم الأذكار وفضائلها، ويقول: «لقيت ليلةَ أُسْرِيَ بي إبراهيم، فقال لي: يا محمد! أقرِئْ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قِيعانٌ (أرض بسيطة تصلح للغرس)، وأن غِراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر»[6].
لا إله إلا الله أعلى شعب الإيمان، وطالب وجه الله، وسالك الطريق إليه، من نصح نفسه، وانتصح بوصية الله ورسوله، فجعل هذه الكلمة الطيبة على لسانه وفي قلبه على كل أحيانه حتى يحبه الله. «فذكر الله غايته أن نتولى الله بالقيام بعبادته كما أمرنا حتى يتولانا هو برحمته كما وعدنا»[7].
ومن الأمور المساعدة على الحفاظ على الأوراد أن يختار المؤمن صفوة الأعمال لصفوة الأوقات، كثلث الليل الأخير حين ينزل ربنا عز وجل إلى السماء الدنيا، وبعد صلاة الفجر إلى الشروق، وبين العشائين، يحافظ عليها المؤمن ما أمكن، فمن شأن ذلك أن يعين على الحضور في الذكر وتثبيته.
ثم التدرج في الإكثار، لأن الذاكر إن دخل في الأوراد بخِفَّة يوشك أن لا يفي بما عاهد الله عليه منها، وأحب الأعمال أدومها وإن قل، و«اكلفوا من الأعمال ما تطيقون» وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا يكن الاشتغال بالإكثار ملهيا عن تحقيق ألفاظ الذكر، والتفكر في معانيها، كتحقيق الهمزتين في ذكر الكلمة الطيبة. وإن من شأن الذكر بنية الجماعة وبركة الصحبة أن يثبت الذكر وينفع به. والحذر الحذر من الخلط في الأذكار!
الإيمان يتجدد بالإكثار من قول لا إله إلا الله، وعندما تكون الصحبة صالحة، ينشأ جو إيماني مشع، ينشأ في الجماعة فيض إلهي، ورحمة ونور تستمد منه القلوب بعضها ببعض. فتتولد الطاقة الإيمانية التي تحرك القلوب والعقول وتنهض للعمل.
يقول الإمام المجدد رضي الله عنه : «النبع لا إله إلا الله، والفيض نورها، حتى يستطيع المؤمن وجماعة المؤمنين تلقي شمس القرآن، ومدد القرآن، وبركة القرآن، وحتى يستطيعوا العمل بمقتضى القرآن»[8].
ذلك أن الإكثار من قول لا إله إلا الله يوحد ويذهب الخلاف والغفلة عن الله. لا إله إلا الله تفتح أبواب رحمة الله الواسعة، وأبواب محبته والقرب منه، وتشفي من الغضب والتعصب والخلاف المبعدين عن الله. لا إله إلا الله تهدي إلى كتاب الله وسنة رسوله، والاحتكام اليهما والوقوف عند حدودهما.
«ومن ثم فالذكر ليس فقط مناجاة في الضمائر، وكلمات على اللسان، وشعائر ظاهرة يعظمها المؤمن. بل الذكر الوقوف بين يدي الله صفا في الصلاة، يتقدم إليه جند الله لأداء مراسيم العبودية، ثم إشاعة حاكمية الله في علاقات جند الله مع الله، وفي علاقاتهم استعدادا لتطبيق شريعته يوم يؤول الحكم إلى المؤمنين، في كل مجالات الحكم، والسياسة، والاقتصاد، وشكل المجتمع، والعدل فيه، والثقافة، والجهاد كله»[9].
في الرسالة التي وجهها الإمام المجدد إلى رباط النصيحة تحذير من التهاون والتفريط في الأوراد قال : «لا إله إلا الله أعلى شعب الإيمان. فما يقول جليس فينا ليس له ورد من الذكر، ولا جلسة للاستغفار بالأسحار ؟
«كيف يُنتظر ممن لا زمام يمسكه عن التسيب في الأوقات من ورد لازم، وجلوس للذكر عازم أن يرقى إلى مقام دوام الذكر ودوام التضرع ودوام الطلب ؟ يفتر الطلب، وتتفتت العزيمة، وينقطع الحبل إن لم يكن الورد دواما ومداومة وصبرا ومصابرة. بعد ذلك فقط نتحدث عن الصبر في الغد الجهادي لا قبله.
«ماتت قلوب، وانهار بناء، وذبل غرس لمَّا لم يتعهد المرء ما غرس!».
بناء ينهار، وغرس يذبل، وفتور ونكوص، إذا المؤمن فرط في أوراده أو تهاون، نعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن السلب بعد العطاء. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وتابعيه بإحسان.
[1] سورة الرعد، الآية 28.
[2] أخرجه ابن حبان في صحيحه.
[3] الإحسان، الإمام عبد السلام ياسين، الجزء 1، ص 254، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2018.
[4] الإحسان، الإمام عبد السلام ياسين، الجزء 1، ص 227، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2018.
[5] أخرجه الإمام الترمذي بنحوه مختصرا، والإمام أحمد في مسنده (21488) واللفظ له.
[6] أخرجه الترمذي بسند حسن عن عبد الله بن مسعود.
[7] المنهاج النبوي : تربية وتنظيما وزحفا، الإمام عبد السلام ياسين، ص 154، الشركة العربية للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى، 1989.
[8] المنهاج النبوي : تربية وتنظيما وزحفا، الإمام عبد السلام ياسين، ص 56، الشركة العربية للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى، 1989.
[9] المنهاج النبوي : تربية وتنظيما وزحفا، الإمام عبد السلام ياسين، ص 155، الشركة العربية للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى، 1989.
أضف تعليقك (0 )