قال مالك: «ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي ﷺ فيُنظَر إلى لونه كأنه نَزَفَ منه الدم، وقد جفَّ لسانه في فمه هيبة لرسول الله ﷺ. ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير، فإذا ذُكر عنده النبي ﷺ بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع. ولقد رأيت الزُّهري، وكان لَمِنْ أهْنَإ الناس وأقربِهم، فإذا ذكر عنده النبي ﷺ فكأنه ما عرفَك ولا عرفته. ولقد كنت آتي صفوان بن سُلَيم، وكان من المتعبدين المجتهدين، فإذا ذكر النبي ﷺ بكى، فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه ويتركوه».
يتحدث المتحدث عن معرفة الله تعالى، ومقامات القرب منه عز وجل، ويقتبس من كلام أهل الله وينتخل، ويبحث ويجمع الدرر والجواهر من كلامهم، وإذا أوتي فصاحة اللسان وذلاقته، وجمال المظهر ووسامة الوجه، أبهر وأدهش، وقد يتعلق الناس به تعلقا يفضي بهم إلى الولع بكلامه دون أن يخطو بهم خطوة إلى ربهم. فهل انتهت الدلالة على الله تعالى في هذا المستوى من الكلام والانتشاء أم إنها شيء آخر؟ وما هي الدلالة على الله تعالى الجامعة لأمر الدين؟ وهل السلوك إلى الله تعالى يستقيم دون الاهتمام بأمر المسلمين؟ وهل يمكن أن يدل على الله تعالى من يعيش تحت إبط الطاغوت مقدما الولاء غير المشروط له؟
كانت تلك جاهلية في روحها، وهذه اليوم نفس الروح تهيمن على العالم باسم الحضارة والتقدم. وكانت قومة الرسول صلى الله عليه وسلم قومة واحدة لم يعالج جانبا من جوانب الفساد ولم يتوجه فيها لقبيلة دون قبيلة. كانت دعوته شاملة عامة. كانت قومة الحق ضد الباطل. وأتى الأمر من أساسه حين كانت لا إله إلا الله رمز دعوته ومعناها وبرنامجها.
إن تَوَلِّي رسول الله ﷺ، والصلاة عليه الدائمة، وحب آل البيت المطهرين، وتولي صحابته، لَمِمَّا يقرب المسافات للمريد الطالب. واختلف العلماء فيمن هم أهل بيته الذين جاءت في محبتهم وموالاتهم أحاديث صحيحة تذكرنا الله وتناشدنا الله فيهم وفي القرآن. فمن قائل إنهم الآل الذين تحرم عليهم الصدقة من بني هاشم. ومن قائل إنهم ذريته وأزواجه. ومن قائل إنهم أمته عامة. ومن قائل إنهم أتقياء أمته خاصة. وحديث الترمذي يخصص عليا وفاطمة والسبطين الكريمين الحسن والحسين.
أنت متخلف بالنسبة لمن تقدمك. فالتخلف صفة اعتبارية يتصف بها أحد طرفي المقارنة. وتطلق الكلمة في عصرنا على الشعوب والدول غير المصنعة إذا قورنت بالدول والشعوب التي سبقت إلى التصنيع. التخلف والتقدم مقياس وضعه الغربيون، فيعرفون أنفسهم بأنهم المتقدمون ومن سار على شاكلتهم، وكأنهم ركب الإنسانية الممثلون لها، لا حضارة إلا حضارتهم، ولا نجاة إلا في اقتباس نموذجهم وتقليده، والسير على آثارهم.